شـكّل قـرار مجـلس الـوزراء الـصادر فـي ١٢ آذار ٢٠٢٢ الـقاضـي بهدم أهراء الـمرفـأ صـفعةً جـدیـدةً لأهالي ضـحایـا انـفجار الـمرفـأ تحـدیـداً، ولـكلّ الـلّبنانـیین عـمومـاً. فـمنذ الـتفجیر الـمشؤوم مباني الأهراء شـامـخةً بـانـتظار تـحقیق الـعدالـة والإنـصاف، خـاصـة أن الـمنطقة الـمحیطة لا تـزال تحـمل فـي ثـنایـاها أجـساد بـعض الضحایا وذاكرة لحظاتهم الأخیرة.
وتـدفـع وزارة الأشـغال الـعامـة والـنقل ووزارة الاقـتصاد إلـى هدم الأهراء بـذریـعة الـحفاظ عـلى السـلامـة الـعامـة وضـرورة الإسـراع فـي تجديد البـناء ربّـما فـي نـفس الـموقـع. وهذه الـذرائـع مـا هي إلا ذرّ رمـاد فـي عـیون الـلّبنانـیین لسـلبهم مجـدّداً ركـیزة أسـاسـیّة مـن ذاكـرتهم الجـماعـیّة. فـالأهراء لیسـت آیـلة لـلسقوط بحسـب الـتقاریـر الإنشائیة رفیعة المستوى، وبناءُ أهراء جدیدة لیس من الضروري أن یكون في نفس الموقع. الـسؤال الأبـرز الـذي یـطرح نـفسه هنا هو لماذا هذا الإصـرار والـمسارعـة فـي مشـروع هدم الأهراء فـي ظـل الـترهّل غـیر المسـبوق لـمؤسّـسات الـدولـة، والـغیاب شـبه الـتام للخـدمـات الأسـاسـیة؟ مـمّا یـطرح أسـئلة أخـرى تـتعلق بإعادة إعمار المرفأ والطموحات التوسّعیة للشركات الأوروبیة، والطموحات الأوسع للشركاء المحلیین!
فـردّاً عـلى ذریـعة ضـرورة إعـادة بـناء أهراء جـدیـدة فـي نـفس الـموقـع، نـسأل الـحكومـة ومسـتشاريها: هل الأهراء المركزیة هي الحلّ الأنسب لحفظ الحبوب والقمح؟ فـقد یـكون مـن الأنسـب بـناء عـدد مـن الأهراء الأصـغر حجـماً لتخـزیـن الـقمح والـحبوب فـي أمـاكـن مـتعدّدة لسهولة توزيعها عـلى الـمناطـق. وأمّـا إذا كـان الإصـرار عـلى بـنائها فـي مـوقـع مـركـزي، فـمن الأجـدى تـبنّي نـصیحة الاتـحاد الأوروبـي وبـنائها عـلى طـرف مـرفـأ طـرابـلس الـجنوبـيّ، وتـجنیب قـلب بـیروت الـمزیـد مـن الـشاحـنات وعـملیّات النقل المستمرّة.
أمـا لـجهة السـلامـة الـعامـة والـتهويل بـإمـكانـیة سـقوط الأهراء أمـام الـعواصـف، فـبالإضـافـة إلـى إیـمانـویـل دوران، الـمهندس الـفرنسـي، الـذي بـرز اسمه بـعد الانـفجار، والـذي عـمل عـلى أخـذ مقایـیس الأهراء بـشكل دوريّ ومــراقــبتها، هــناك بــحث مــیدانــي بــالــغ الــدّقّــة، وقــد نشــر فــي أهمّ الــمراجــع الــعلمیة مــن الــفئة الأولى (ENGINEERING STRUCTURES)، وهو يُشكّل الـدراسـة الـعلمیّة الـمرجـعیّة الـوحـیدة الـمعلنة حـتى الآن فـي مـوضـوع انـفجار الـمرفـأ، وهو بـحث الـدكـتور یـحیى تـمساح ومساعديه. والـبحث مـنشور فـي مجـلة عـلمیة، وفـي مـتناول أيّ شـخص یـسعى لـمعرفـة الـوضـع الإنـشائـي لأهراء الـمرفـأ. یخـلص الـبحث إلـى عـدد مـن الـنتائـج فـي مـوضـوع الانـفجار والأهراء، إنّـما مـا يهمّنا الآن مـا اسـتنتجه عـن الـوضـع الإنـشائـي لـلصوامـع، مـؤكّـداً ـأنّها لـن تـسقط فـي أي وقـت قـریـب، وأنها عـلى الـمدى الـبعید قـد یحـدث فـيها انهيارات جـزئـیة. وكـأيّ مـنشأ خـرسـانـي عـلى وجه الـخصوص، هي قـابـلة لـلتدعـیم والـترمـیم أیـضاً، إذا أراد الـلبنانـیون ذلـك. لـذلـك هي لا تهدّد السـلامـة الـعامـة عـلى الإطـلاق، ولـن تـسقط جـراء عـاصـفة أو إذا مـرت مجـموعـة مـن الـناس بـقربها؛ وبـالـتأكـید لـن تهدّد مـناطق مار مخایل والجمیزة بالغبار والفطریّات والأسبستوس.
يبقى الأهمّ مـن هذا كلّه، وبـغض الـنظر عـن تـكلفة تـدعـیم مـبنى الأهراء مـقابـل تـكلفة هدمها، أن هذا الـمعلم أصـبح مـلكاً اجـتماعـیاً ومـوقـعاً یـذكّـر الـلبنانـیین والأجـیال الـقادمـة بحجـم الـكارثـة الـتي وقـعت نـتیجة الإهمال بـالإضـافـة إلـى تخـلید الـضحایـا ومـأسـاة الـلبنانـیین؛ ومـن غـیر الـمقبول الـتعاطـي معه مـن مـبدأ مصلحة الفئات المهيمنة عـلى الـقرار السـیاسـي مـن دون الأخـذ بـعین الاعـتبار الـبعد الـوطـني والاجـتماعـي والـرمـزیـة الـتي تحملها، وأهمّيتها لأهالي الـضحایا، الـذیـن فـقدوا أحبّاءهم فـي ذلـك الـموقـع. فـالـقضیة تـعبیرٌ عـن تـمسّك الـمجتمع الـلبنانـي بـذاكـرة جـماعـیّة تُـدیـن سـقوط أبـریـاء، دفـعوا حـیاتهم ثـمناً للإهمال وسـوء الإدارة، بـالإضـافـة إلـى كونها مـعلماً من معالم العدالة التي یسعى إليها أهل الضحایا وأهل المدینة على حدّ سواء.
إن لـبنان وطـن مـحكوم بسـیاسـیین وأصـحاب قـرار مـتّفقین دومـاً ضـدّ شـعبهم، واسـتخدمـوا بـبراعـة سـیاسـة النسـیان القسـريّ ضـدّ الـلبنانـیین عـبر إخـفاء دلائـل الحـرب والـمجازر ومـحو الـمعالـم بـحجة اسـتمرار الـحیاة الـعامـة، وهم یـعرفـون تـمامـاً أنّهم بـذلـك یـقتلون الـذاكـرة الجـماعـیة، وبـذلـك تـنتفي أيّ إمـكانـیة لـلمصالـحة والـتعافـي وإمـكانـیة الـعدالـة الانتقالیة. على اللبنانیین دوماً ابتلاع غضبهم ودفن ألمهم في داخلهم، وفقدان ذاكرتهم الجماعیّة إلى غیر رجعة.
فـي ١٨ آذار ٢٠٢٢ تـم وضـع الأهراء عـلى لائـحة الجـرد مـن قـبل وزیـر الـثقافـة، لـكننا نـعلم بـأنّ قـرار الـوزیـر یـمكن لأيّ وزیـر آخـر مـعارض له تخـطّيه، والـمضيّ قـدمـاً بـقرار الهدم الـصادر عـن رئـاسـة مجـلس الـوزراء. الـمطلوب هو الـدفـع لـلمصلحة الـعامّـة، وإزاحـة هذا الـمبنى الـشاهد عـلى ثـانـي أكـبر انـفجار فـي مـدیـنة سـكنیّة، وإزاحته من حقل التجاذبات السیاسیّة والمحاصصة الداخلیّة.
أكـید مـطلوب إعـادة إعـمار الـمرفـأ، إنـّما بـشكل یـكرّم بـیروت، ولا یـنكأ جـراحها. بـیروت تـریـد مـرفـأً حـیویـاً، وتـریـد أن تـعید تـواصـلها مـع البحـر الـذي فـصلوها عنه لـسنوات كـثیرة. وبـیروت تـریـد الـشاهد عـلى جـریـمة الـمرفـأ والـمنطقة المحیطة به منطقة مفتوحة تكرّم الضحایا وتعطي عبرة للأجیال القادمة.
الكاتبة : د. رنا الدبیسي