من الصباحِ المبكر، لهذا اليوم السبت، الثاني من نيسان/أبريل 2022، تركتُ بيروت، صحبةَ صديقي كوبر، هاربًا إلى الربيع في مسقطي، بزيزا، من أعمالِ الكورة، في شمالِ لبنان، بعد تغيّبٍ قسريٍّ – طوعيٍّ، لاستحالةِ القدرةِ في زمنِ الزهرير على تشغيلِ الشوفّاج، للأسبابِ المعروفة.
ملأتُ خزّانَ السيّارةِ بما تَيسّرَ في الجيب، سبعمئة ألفِ وثمان وأربعون ليرة لبنانيّة، فقط لا غير. علمًا أنّ المبلغ يهدُّ مَن كان مثلي من أصحابِ الدخلِ بالعملةِ الوطنيّة (على الموضة القديمة)، أي بحساب الدولار، محافظًا على سعره الأصليّ، ومتشبّثًا به، 1507 ليرات لبنانيّة، كأنّه مثابة بندٍ جوهريٍّ في مقدّمة ِالدستور، غير قابلٍ للتعديل، و... لا للانتهاك.
الطريقُ إلى الشمال يُعيد ميتًا – مثلي - إلى الحياة، لمحضِ التفكيرِ بأنّ الوجهةَ ستُفضي، بعد وقتٍ، إلى حيث، على مقربة، يرقدُ أهلي رقادهم الطيّب الأمين.
أنظرُ من حولي، وأنا أسوقُ الهوينا، فأرى من جهة اليسار، البحر الأزرق الصافي، وفوقه أزرقُ السماء، بكلِّ ما ينطوي عليه هذا الأزرقُ من مراتبَ ودرجاتٍ (ونوطاتٍ) تتفتّحُ وتتغامقُ تصعيدًا وتأجيجًا، أو يتداخلُ بعضُها في بعضها، على طريقةِ التعاشقِ والتعشيق، فتفعلُ فيَّ ما يفعله اللهُ في قلبِ الشخصِ المؤمن، وما يفعله الوجدُ في أحشاءِ العاشقِ العشيق.
أسوقُ الهوينا، بل أتوقّفُ، فأرى إلى اليمين، هذا الأخضرَ، الليّنَ، المطواعَ، المغناجَ، مزدهيًا بفردوسِ أزهارِهِ التي تخترعُ لأنفسها ألوانًا طليعيّةً غيرَ مسبوقةٍ وغيرَ متعارفٍ عليها؛ على طريقةِ خلّاقٍ رسّام يمتحنُ مواهبَه امتحانًا تلوَ امتحان، فلا يركنُ إلى وصفةٍ لونيّةٍ جاهزة، فتُرى حقولُهُ اللونيّة، وأشكالُهُ، كأنّها ضرباتُ نردٍ لا يتكرّرُ جمالُها، ولا هو يملُّ، ولا هو ييأس.
أيستولي عليَّ الذهولُ، وأنا ناظرٌ في ما أنا فيه، بحيث أجدُني أقولُ متسائلًا: كيف ارتكبنا ما ارتكبناه في حقِّ هذه البلاد؟ كيف لا نزالُ نرتكبُ ما يُرتَكَبُ من آثامٍ وخطايا وجرائمَ وعمالاتٍ وخياناتٍ، كلّ يومٍ، كلّ لحظةٍ، تشويهًا وإفسادًا وتمريغًا وإذلالًا ومصادرةً واحتلالًا وتخريبًا وتدميرًا (وإزالةً من الوجود)، لأعزّ ما يمكن أنْ يحلم به مواطنٌ أو كائنٌ، أينما كان في هذه الأرض، وتحت هذه السماء؟ حتّى لأجدني أقولُ في قرارتي: كم يُخجِلُني أنّي مواطنٌ من لبنان. ليس لعيبٍ في لبنانَ البلاد، بل لعيبٍ فيَّ، وفينا، هو كلّ العيب.
ها أنا في بلادِ البترون، مرتقيًا بعقلي وعينيَّ إلى حيث البيوتُ شبابيكُ وقناديلُ وأفئدةٌ، والجلولُ والوهادُ والمنبسطاتُ والتلالُ والشلّالاتُ والجبالُ والثلوجُ على الجبال، مفاتيحُ الدخولِ إلى حفلِ التلاقي بين الأرضِ والسماء، تديرُهُ وترعاهُ أوركسترا شعريّةٌ، هي بالموهبةِ والولادةِ والطبعِ لا بالصنعةِ والتطبّع، ليس لنا يدٌ فيها، ولا حبرٌ، ولا كلامٌ، ولا آلةٌ، ولا عزفٌ، ولا موسيقى.
أهبطُ قليلًا إلى الكورةِ الخضراء، فتبتهجُ كرومُ الزيتون والعنب واللوز، ويتراقصُ القندولُ الأصفرُ، وتصدحُ الروحُ وسائرُ العصافير.
ها أنا أحطُّ الرحالَ، يسبقني كوبر إلى حيث لا بدَّ من الترجّلِ، وهيصةِ النزول، فأنفردُ بتحضير القهوة، والجلوس، والإنصات إلى ما لا يُدرَكُ بعقلٍ ولا بحسّ.
الكاتب: الصحافي عقل العويط