الأسبوعُ الحاليّ هو أسبوعُ آلامٍ عند الموارنة وسائر المسيحيّين الذين يتّبعون التقويم الغربيّ. من بين الطقوس المارونيّة، أتوقّف عند "رتبة القنديل" في يوم أربعاء الآلام، المكرَّس لتبريك الزيت الخاصّ بـ"مسحة المرضى" (مشحة المشرفين على الموت؟!)، لألقي ضوءًا معياريًّا ونقديًّا على مَرَضٍ لبنانيٍّ (شبهِ) مستعصٍ، يُدعى "مَرَض الرئاسة" عند الموارنة. علمًا أنّ بين الرئاسةِ (المارونيّة) في لبنان ورسالةِ مارون الناسك ومسؤوليّتها ومهمّتها ودورها ومبتغاها، بونًا أكثرَ من شاسعٍ، وأدهى. ومن الجور أنْ توصف هذه المارونيّةُ بأنّها هي "المريضة" بسبب "مَرَض" الطامحين الموارنة إلى الرئاسة، والطامعين بها.
رسالةُ مارون الناسك في لبنان، في أنطاكيا، في سائر المشرق، وفي العالم، باعتبارها مشروعًا مفتوحًا على ثقافةِ النسك والحرّيّة، لا يجوز أنْ توصَمَ بأنّها "مريضةٌ"، حيث تُستَخدَم استخدامًا مهينًا، وتُبذَل فكرتُها بذلًا رخيصًا من أجل صفقاتٍ ومرابعَ ومراتعَ ومناصبَ وكراسٍ ورئاساتٍ في الأرض، مضفورةٍ بأنواع العار والخنوع والذلّ والاسترضاء والذمّيّة.
إذا كان ثمّة فرادةٌ لهذه الرسالة، ففي ما تنطوي عليه خبرتُها الطويلة والمشرِّفة في أراضيها الأمّ، من كراماتٍ معنويّةٍ، وصلاباتٍ أخلاقيّةٍ راسخةِ الجذور، وغنًى روحيٍّ، وتصوّفٍ وزهدٍ وبذلٍ وكَرمٍ وانفتاحٍ ورحابةٍ وتبصّرٍ واستبصارٍ وحكمةٍ واستيعابٍ وترفّعٍ وكِبَرٍ وتوقٍ، وهذه جملةٌ من الأصولِ المتأصّلةِ، والقيمِ والمعاييرِ اللاهوتيّة والطقسيّة والمعرفيّة والعرفانيّة، تندرج جميعها في ثقافة التقشّف والنبل والكرامة والتمرّد والحرّيّة، التي لا تنازلَ عنها البتّة، ولا مساومة في شأنها البتّة، مهما تكن الإغراءات والغوايات والترغيبات والترهيبات.
لا زعامة – مهما تَطَاوَلَ رأسُها - تعلو على رئاسةِ ثقافةِ الحرّيّة، وهي الرتبةُ الوحيدة التي يحلو لرسالة مارون الناسك، وللمارونيّة، أنْ تدافع عنها، وتضحّي من أجلها، وتتمسّك بها، وتُستشهَد في سبيلها. إذا من منصبٍ في الأرض، فهو هذا المنصب المكلّل بثقافة الحرّيّة. خارج هذه الثقافة، لا منصب تشتهيه المارونيّة، ولا هو يعنيها في شيء. خارج هذه الثقافة، لا معنى للرئاسة (المارونيّة) في لبنان. بل باطلةٌ هي هذه الرئاسة.
كلُّ رئاسةٍ دونَ هذه الرئاسةِ المتقشّفة المنفتحة الرحبة العقلانيّة المتبصّرة البصيرة النبيلة العالمة السيّدة الحرّة المستقلّة، هي انتهاكٌ لفلسفة مارون الناسك المتواضعة، لكن الرفيعة الشأن والفريدة في الترفّع والزهد وكِبَر النفس.
كلُّ لهاثٍ سياسيٍّ (مارونيٍّ) وراء المناصب المفرّغة من هذا المعنى الجوهريّ والاستثنائيّ لرسالة مارون، هو لهاثٌ دنيءٌ، حقيرٌ، مقيتٌ، وهو تمريغٌ، بل خيانة. ما لم يتدارك الموارنة، وخصوصًا الآن وهنا، الأهمّيّة المطلقة التي ينطوي عليها هذا المعيار، فإنّ رسالتهم في سائر أنطاكيا والمشرق والعالم وهنا، قد لا تعود تنفع فيها "مسحة المرضى" وهي مشحة المشرفين على الموت، والمعرَّضين للاندثار والزوال.
أكتب هذا المقال بصفتي العلمانيّة، مواطنًا في هذا الأرض، في هذه الأنطاكيا وسائر المشرق والعالم وهنا، ناظرًا إلى "تهافت التهافت" الذي يتلبّس الغالبيّةَ العظمى من نفوس المتربّعين على الكراسي، والطامحين إلى الرئاسة، والطامعين بها، ومن عقولهم، وأخلاقيّاتهم، ومعاييرهم.
مَرَض الرئاسة، لا تجعلوه (أيّها الموارنة) ممرًّا خبيثًا لإدراج رسالة مارون الناسك والمارونيّة، في سجن الذمّيّة القاتلة. هذا مرضٌ خبيثٌ لا تنفع فيه "مسحة المرضى"، وليس منه شفاء.
الكاتب: الصحافي عقل العويط