هؤلاء الذين ركبوا زورق الموت، في طرابلس، كانوا على يقينٍ من أنّ البرّ (لبنان الرسميّ) قد لَفَظَهم (قَتَلَهم) إلى غير رجوع. وأنّ الأرض لم تعد أرضهم، ولا الأزقّة أزقّتهم، ولا بساتين الليمون بساتينهم، ولا السماء العارية سماءهم. كان البحر لهم مجرّد احتمالٍ ضعيفٍ، كمثل الضعف الذي كان يعتري ضوء حياتهم الشحيح. قالوا لأنفسهم ما دمنا عارفين أنّنا قتلى وضحايا وموتى هنا، فوق البرّ، فلِمَ لا نحاول، لِمَ لا نُراوِد البحر، لِمَ لا نسأل هذا البحر، الذي لم يبخل علينا يومًا بالسمك الغفير، والحلم الغفير، والهرب الغفير. 

هم ماتوا، هم قُتِلوا في البحر، لأنهم كانوا ماتوا قبْلًا، وكانوا قُتِلوا قبْلًا، ولم يعثروا في أرضهم، في بلادهم، في طرابلسهم والجوار، على مقبرةٍ يرقدون فيها آمنين مطمئنّين.

كان ينبغي لهم أنْ يفعلوا أيّ شيء. أنْ يحاولوا أيّ شيء. سوى أنْ أنْ يمدّوا يد السؤال إلى حكّامهم، الذين لطالما استكثروا عليهم كرامةً تقيهم وجعَ المهانة، ورغيفًا يسدّ الرمق، ووظيفةً تكشح عنهم ذلَّ الحاجة، وضمانًا يطرد كوابيسهم، ويجعل ليلهم كما ينبغي لكلِّ ليلٍ أنْ يستضيء بنجومه، بقمره، وكما ينبغي لكلّ سماءٍ أنْ تتعمشق بربّها، ولكلِّ بلادٍ أنْ تحترم أهلها وعبادها. 

كان ينبغي لهم أنْ يفعلوا أيّ شيء، سوى أنْ يسألوا أين الحكومة، أين الرئيس، أين المجلس، وأين الوزراء والنوّاب وسائر القادة الموقّرين المحترمين، بعدما يبستْ عيونهم، ويبستْ أيديهم، والشفاه، من فرط استعطاء السؤال. 

كان ينبغي لهم أنْ يفعلوا أيّ شيء سوى أنْ يسألوا بعبدا، وعين التينة (ساحة النجمة)، والسرايا، والمراتع والمرابع الأخرى، والقصور والمقارّ على أنواعها، واليخوت الخاصّة، والطائرات الخاصّة، والمنتجعات الخاصّة، هنا، وحيثما كان، في ديار الله الوسيعة.

عندما أبحروا، لم يكونوا خائفين. لم يكونوا يائسين. تركوا الخوف وراءهم، واليأس تركوه، غير آبهين. ما كانوا يملكون حياةً ليفتقدوها. ما كانوا يملكون بيوتًا ليقلقوا في شأنها، ولا أراضيَ، ولا بساتين، ولا كانوا يكدّسون الأموال، ليراتٍ أو دولاراتٍ، لتشغلهم أسعار البورصة والعملات. هل قلتُ ودائعَ في البنوك؟ لا. وألف لا. لم تطأ أقدامهم عتبةَ مصرفٍ في طرابلس والجوار، ولا وقفوا يومًا أمام واجهات البنوك. ولا فكّروا في أنْ يقتنوا - لعلّ وعسى - خزنةً من حديد. جلّ ما كان يقضّ نهاراتهم والمضاجع، كيف يعودون، كيف لا يعودون إلى عيالهم بجيوبٍ فارغة، وأيدٍ فارغة، وعيونٍ مبحلقة في الفراغ في العدم.

عندما خرجوا إلى البحر، لم يلتفتوا وراءهم. لم يكن ثمّة شيءٌ وراءهم ليلتفتوا إليه، خشية أنْ يشعروا حياله بالشوق أو بالخسران. كانوا يحملون معهم أطفالهم، وابتساماتٍ راجفة، وبعضًا من أكياس الفقراء وثياب الرجاء. لكنّهم حقًّا كانوا يائسين، إلى درجةٍ أنّهم صدّقوا أنّ زورقًا ضعيفًا في البحر، يمكنه أنْ يُباغتَ البحرَ في عرضِ البحر، وأنْ يرسو بهم على مقلبٍ آخر من شقاء هذا البحر.

الآن، كم أُشفِقُ على الذين تمّ انتشالهم، إلى أين يذهبون، وماذا تراهم غدًا يفعلون.

الآن، أنظر إلى الغرقى، فأقول، وسامِحوني لأنّي أقول: ما أجملهم غرقى إلى الأبد. ما أجمل جثثهم الطافية. ما أجمل أحلامهم المهدورة. ما أجمل كوابيسهم التي أخذوها إلى البحر، وبات مستحيلًا انتشالها من البحر. هؤلاء الغرقى في مقدورهم الآن أنْ يعودوا من حيث أتوا. لن يبكّتهم جوعٌ، ولا مرضٌ، ولا فقرٌ، ولا سؤال. لن يقاصصهم أحدٌ. لن يعاتبهم أحدٌ. لأنّه لا ينتظرهم أحد. ولن يسأل عنهم أحد.

الآن، في مقدورهم أنْ يسبلوا أيديهم، أنْ يغمضوا عيونهم، وأنْ يناموا مليئًا، وأنْ يحلموا مليئًا بسمكٍ غفيرٍ، وبإفطارٍ غفيرٍ، بعد رجوعهم من البحر الغفير.

الآن، أنظر إلى مقتلتهم وأقول متجرّئًا: لقد ماتوا قتلًا، على غرار الذين اغتيلوا غيلةً وغدرًا وقتلًا في تفجير مرفأ بيروت. ما أقرب طرابلس من بيروت. ما أقرب الموت في طرابلس من الموت في بيروت. والقتلى هؤلاء، ما أجمل موتهم البحريّ الذي يئس من كلٍّ موتٍ طبيعيٍّ هانئٍ، هنا، فوق هذا البرّ اللبنانيّ اللئيم، فوق هذا القحط العميم. 

وإنّي أخاطب هؤلاء القتلى قائلًا:، ما أقبح رؤساءكم، زعماءكم، حكوماتكم، نوّابكم، وزراءكم، وسائر المسؤولين المحترَمين الموقّرين. وليعلم مَن يريد أنْ يعلم: أنتم أدليتم بأصواتكم في البحر قبل الأوان. لكنّ البحر، ها هو البحر يحمل أصواتكم لتوضَع في الصناديق. لن يغدر (وزيرٌ) بأصواتكم هذه المرّة. لن يزوّر أعدادكم. لن يعرض عليكم رشوةً. لن يستبدل أصواتكم بأصواتٍ أخرى، مرتّبة وجاهزة، وتحت الطلب.

سيحمل البحر لعنة القتلى والغرقى والموتى إلى الصناديق.

وإنّي أخاطب هؤلاء الذين سيقترعون في 15 أيّار، قائلًا: كونوا أصوات القتلى في الصناديق.

هكذا ننتقم لقتلى البرّ، لغرقى البحر في طرابلس، وننتقم لطرابلس، لبيروت، وللبنان كلّه أجمعين. 

ومَن يدري! فقد يحمل صندوقُ الانتقام، قد يحمل رؤساءكم، زعماءكم، حكوماتكم، نوّابكم، وزراءكم، وسائر المسؤولين المحترَمين الموقّرين، المستبدّين الطغاة المستكبرين الأوصياء المحتلّين الفاسدين النهابين السارقين الفاسقين، إلى زورقٍ (بل إلى يختٍ مفخّخٍ أنيق) يغرق بهم، ويُغرّقهم في لجج البحر اللعين. آمين!

الكاتب: الصحافي عقل العويط