أيام قليلة تفصل اللبنانيين عن موعد 15 أيار، الاستحقاق الانتخابي الأبرز الذي يواجه لبنان، فبرلمانيات 2022 لا تشبه أيّ انتخابات سابقة، وبوجه خاص ما بعد العام 1990.
إنها مواجهة داخل الطبقة السياسية المتسلطة محورها الأحجام تسهيلاً للبيع والشراء اللاحق، ومواجهة بين منظومة أذلّت اللبنانيين وتسعى لتجديد شرعيتها، تواجه معارضة ناشئة تشرينية رفضت الدولة – المزرعة، وتوحّدت حول مهمّة استعادة الدولة المخطوفة بالسلاح، وتمسّكت باستعادة الدستور والقرار الوطني والقضاء المستقلّ وحماية الرغيف.
وُصفت الانتخابات بالمفصلية، وهي كذلك، لأنّ لبنان لم يعرف معارضة جدّية، لا صدام برامج ولا خلاف حول رؤى للتغيير. كانت مواجهاتهم منضبطة تحت سقف نظام المحاصصة الطائفي الغنائمي، ليتشاركوا لاحقاً في سرير حكومي واحد. هم "النفايات السياسية"، وفق توصيف الرئيس تمام سلام إبّان "انتفاضة النفايات"، أوصلوا اللبنانيين إلى الجحيم، عوز ومجاعة وتفضيل "قوارب الموت"، بعدما طال الدمار البنى الرئيسية: الصناعة المصرفية التي انعدمت الثقة بها، إلى الإفلاسات الضخمة وخراب قطاعين ميّزا لبنان وهما التعليم والاستشفاء. وبعد نهب الودائع ومن ضمنها أموال المتقاعدين وصناديق النقابات، أدّى الانهيار في سعر الصرف إلى تلاشي الطبقة الوسطى التي كانت رافعة ازدهار البلد واستقراره.
تجري الانتخابات وسط ظروفٍ هي الأقسى والأصعب والأوضح، إثر انهيارات حوّلت لبنان إلى أرضٍ محروقة غير صالحة للعيش، وحولت اللبنانيين في طرفة عين شعباً متسولاً. وتتمّ بعد ثورة "17 تشرين" التي وإن لم تُسقط المتسلطين فقد عرّت "النفايات السياسية" الذين انكشف فسادهم السياسي والأخلاقي. وهي أول انتخابات بعد جريمة تفجير بيروت والدلالات التي تركتها، وأبرزها أنّ المتسلطين وراء التسبب بإبادة جماعية وترميد قلب بيروت، وأنّ بقاءهم على كراسيهم سيمنع العدالة والحقوق ويعمق جروح البلد وندوبه. وهي الانتخابات الأولى التي تتم إبان سعي المتسلطين لإقرار قانون خطير للعفو عن الجرائم المالية، ما يعني تغطية شبكات الفساد وغسل الأموال، وليشكل بعد 3 عقود الوجه الآخر لقانون العفو عن جرائم الحرب، الذي لولاه لكانت المقابر الجماعية قد افتُضحت، ولما كان لبنان يشهد إعادة ترشح رموز حرب أهلية وفارين من العدالة ومدعى عليهم بجناية "القصد الإحتمالي بالقتل"!
وتجري الانتخابات وسط خطر وجودي يمسّ الكيان والهوية. البلد مرتهن لملالي طهران عبر وكيلهم المحلّي "حزب الله"، والقرار مختطف والرئاسة ملتحقة، ومخاوف أصدقاء الشعب اللبناني كبيرة على المصير وفق البابا فرنسيس: "من ألاّ يكون مستقبلُ هذا الوطن مضموناً"!
وسط كل ذلك، كان الوصول إلى محطة 15 أيار وفي البلد محورين، أولهما يقوده "حزب الله" ويريد أن تكون الانتخابات المنصّة لضمّ لبنان نهائياً إلى محور إيران الكبرى، يقابله محور من يريد استعادة الدولة المخطوفة واستعادة القرار للبنانيين واستعادة الدستور، وهو محور يضمّ قوى طائفية تقليدية استفاقت متأخرة على قضية السيادة، ويضمّ القوى التغييرية الجديدة التي نجحت في تقديم خيار آخر للبنانيين عندما بلورت 11 لائحة مكتملة في 11 دائرة، وتواجه "حزب الله" في عقر داره خصوصاً في الجنوب. لكنّ حملات دنيئة انطلقت تستهدف من يعارض "حزب الله"، سخّفت الانتخابات وقلّلت من جدواها وفخّخت الرأي العام بمعطيات ملغومة، بالزعم أنها "مسلّمات" استناداً إلى "فلاسفة" بورصة إحصاءات أرادت التيئيس والتغطية على دخول الناس كلاعب سياسي جديد، لكنها أكّدت توجّس المتسلطين ممّا يمكن أن تبوح به صناديق الاقتراع!
وبمعزل عمّا يروَّج من أنّ "حزب الله" مرتاح إلى وضعه وزخمه الشعبي وقدرته على مدّ "حلفائه" بالأصوات، فإنّ معطيات مغايرة برزت، أوجبت ضرورة انخراط السيد حسن نصرالله شخصياً في العملية الانتخابية، ومتابعته تركيب القوائم وأحجام تمثيل أطراف الممانعة. ترافق ذلك مع تهديدين أولهما الإعلان أنه أياً كانت النتائج لن يُمسّ تحكم الدويلة! والثاني اعتبار "المقاومة" دين، وتجريم كل من يترشح ضدّ لوائح الثنائي المذهبي في أخطر منحى تكفيري يحمل مخاطر هدر دم المرشحين المعارضين!
وفق تقارير "لادي" التي نشرتها "النهار" مؤخراً، أرفق "حزب الله" حملاته بـ"سخاء" ماليّ كبير! توزيع مساعدات مالية وغذائية ومحروقات على 210 آلاف أسرة، إلى جانبهم 93 ألفاً هم أصحاب مشاريع صغيرة ومزارعين وطلاب ومتعثري الزواج (...) ليعكس ذلك قلق هذا المحور من احتمال حدوث مشاركة كثيفة، وتصويت عقابي، يمسح الكثير من آثار عمليات التزوير والضغوط المتنوعة وبينها "إقناع" 3 مرشحين في بعلبك الهرمل بالانسحاب!
الأكيد أنّ جديداً نوعياً طرأ أدّى إلى بدء حملات تبصير غطت الشاشات، رافقها ترويج وصل حدّ إعلان أسماء الفائزين قبل أسبوعين من عملية الاقتراع، بهدف التأثير السلبي على المقترعين، مرّت تحت أنف اللجنة المستقلة للإشراف على الانتخابات، وهدفت الحملات إلى تعميم اليأس أن "لبنان هيك"! ليتبيّن أنّ الدعوات للمقاطعة تراجعت بقوة وليتأكد أن نحو 30 في المئة من الناخبين لم يحسموا خياراتهم، فازدادت خشية الفريق المتسلط من أنّ "البلوكات" التي يستندون إليها قد لا تكون حاسمة في توجيه النتائج رغم التزوير!
لقد أدخلت "17 تشرين" المواطنين إلى الشأن السياسي. أدخلت لغة ومفردات وتعابير، وأصبحت الأولويات مختلفة في التداول من الشأن المالي والاقتصادي إلى الفساد، ولا تقف هذه اللغة عند كشف مخاطر الإقتصاد الموازي والتهريب المحمي كشكلٍ من أشكال نقل الثروة إلى الخارج... يقابل ذلك تكلّس طبقة سياسية عجزت عن أيّ مبادرة ولو جزئية تخدم الناس. وبالتوازي، اتّسع انتشار برامج القوى "التشرينية" التي من شأن الأخذ بها أن تحمي الرغيف وحبة الدواء، كمقدّمة لنقل لبنان من حالٍ إلى حال، لأنها تحاكي مصالح البلاد وحقوق أهلها والفئات الشابة خصوصاً فتقدم للناس خياراً بديلاً.
15 أيار ساعة الحقيقة للثأر للبنانيين ممّن أذلّهم ويعيد تدمير بيروت وقتل ضحايا 4 آب مرة ثانية، ولم يرفّ له جفن أمام اقتلاع أعين مئات الثوار. ومعاقبة من اقتلع البلد وحوله رصيف هجرة بحيث بعد عقدٍ واحد لن يبقى في لبنان إلاّ كبار السن نواطير مفاتيح لا أكثر. 15 أيار سيكون محطة على طريق تكوين البديل السياسي الكامل بتجديد ثورة تشرين وبدء مرحلة إعادة تكوين السلطة فتتم مساءلة ومعاقبة من سرق وقتل وصادر العدالة ومنع المحاسبة وارتهن البلد!
الكاتب : الصحافي حنا صالح