اتعمد حجز مقعدي في الطائرة بجانب النافذة وخاصة عندما اغادر لبنان ، ليس لشيء سوى انني ارغب بمعايشة لحظة الوجع بكل تفاصيلها ، اصبحت مدمنة على الاوجاع ، ثماني سنوات في الاغتراب ارهقتني والحنين لأزقة بلدتي وشوارعها والجلسة برفقة عائلتي يعتصرني كل يوم ، كل مرة اركب الطائرة لأغادر وطني لبنان عائدة الى مكان اقامتي في دولة الاغتراب، عند الاقلاع أنظر من النافذة واحدق في ارض الوطن وعيناي دامعتان كأنني أغادر هذه الأرض للمرة الأولى وكل مرة أعود وأقول في أعماق نفسي: دمت بخير وطني الحبيب، أتمنى ان أعود الى أحضانك ولا أضطر الى الغربة ثانية”.
فبالله عليك يا وطن انتفض ولا تسمح للزعماء السياسيين الفاسدين الذين باعوك وباعوا ضمائرهم وكرامتهم ان يدفعوا باللبنانيين أكثر فأكثر الى الغربة. فالمغترب اللبناني مشتت في انحاء العالم يعيش في البداية قساوة الازدواجية في كل شيء. في أحسن حاله يمتلك جنسيتين وبالتالي ينتمي الى وطنين. وطنه الام يتربع على عرش قلبه وروحه الممزقة بسبب الفراق، ووطنه الثاني يسيطر على فكره بأمر فعل الواقع، كما انه معظم الاحيان يشعر بأنه دخيل على مجتمع جديد مختلف عنه من حيث الثقافات والتقاليد والعادات والطقوس ويشعر بأنه مواطن او مقيم من الدرجة الثانية.
وجيل بعد جيل، بات المغترب اللبناني ينتمي الى فئتين. الفئة الأولى اعتادت على فكرة ان الوطن البديل هو الوطن الحقيقي حيث قدم لها كل ما تحلم به من أمان وسلام وحرية وعيش بكرامة واستقرار، ووضع بتصرفها مجالات تطوير تثبت من خلالها نفسها ومهاراتها وتنجح وتتفوق. ونتيجة لذلك تتحول هذه الفئة الى مواطنين لبنانيين غير مبالين بالوطن الام، ورويداً رويداً يقطع هؤلاء كافة علاقاتهم بالوطن، فعندها يخسر لبنان خيرة ابنائه وموارده البشرية وهم كثر مع العلم بان الأيام قد اثبتت ان العديد منهم هم نخبة استطاعوا ان يبرعوا في اوطانهم الثانية في مجالات عدة منها السياسية والإعلامية والثقافية والتجارية وغيرها.
اما الفئة الثانية، فهي فئة المغترب اللبناني الذي لطالما تشبث بوطنه الام وآمن به وأرسل ما جناه في مشقات الغربة الى المصارف اللبنانية مطمئناً على أنه سيمضي فترة تقاعده وشيخوخته في أحضان الوطن ومحافظاً على كرامته حيث ان المال الذي جناه يجنبه في المستقبل أية مذلة او مد اليد الى أيّ كان. بالله عليك يا وطن لا تقبل بتبرئة الظالم وظلم البريء؟ فكيف تسمح للمسؤولين الفاسدين باختلاس أموال هذا المغترب لا بل اختلاس أحلامه وآماله وشقى سنوات طويلة من التعب ؟ كيف تسمح للمنظومة المصرفية ان تسرح وتمرح دون مساءلة ومحاسبة؟
بالله عليك يا وطن هل ما زلت تصدق من سبب بهجرة أربعة اضعاف عدد سكان الدولة الى الخارج؟ هل ما زلت تؤمن بمن كان السبب بشرذمة العائلة اللبنانية في أنحاء العالم وبحزن الأمهات والاباء الذين يسهرون على تربية أولادهم لتخطفهم الغربة من احضانهم؟ ألا تعي أكاذيب من باعك الى الغرب أو من قبض ثمنك من دول الخليج أو من زحف لإرضاء ولاية الفقيه الإيرانية مدعياً شرعية السلاح ومقاومة إسرائيل كحق حصري له وكأن الله فوضه مباشرة بإدارة هذا الملف؟ وكل ذلك طبعاً على حساب الشعب اللبناني عامة والمغترب اللبناني خصوصاً.
وطني الحبيب لا وألف لا، فأنت الوطن الجبار ترفض ان تستسلم وان تخضع الى سفالة القيادات الرخيصة. فلا بد للحق ان ينتصر و لا بد للأيادي البيضاء ان تلمع رغم كل السواد ، ولا شك بأن نواة النصر ظهرت في نتائج الانتخابات النيابية حيث ان عدداً ملموساً من المستقلين ذوي الكف النظيف والضمائر الصاحية وصلوا الى قبة البرلمان، كما ان رئيس مجلس النواب اعيد انتخابه للمرة السابعة ولكن مع مفارقة مهمة جداً وهي بأن عدد الأصوات هي الأقل منذ توليه الولاية الأولى. كل ذلك يضعنا امام مشهد جديد مليء بالأمل والتفاؤل ويذكرنا بأن لبنان بالرغم من كل المصائب التي حلت به ما زال ينبض عنفواناً وكرامةً.
رويده هيكل الخازن