"بالنسبة إلى المستقبل، ليس المهمّ أنْ تتوقّعه (أو تتنبّأ به)، بل أنْ تجعله ممكنًا" (أنطوان دو سان إكزوبيري)

عزيزي أنسي، 

ها أنتَ في ختامِ سنتكَ الجامعيّة الخامسة، تتخرّج في برشلونة حاملًا شهادة ماجستير في إدارة لعبة كرة القدم، وتمثيل لاعبيها، والنيابة عنهم، وإبرام العقود معهم، بعد أربعِ سنواتٍ من الدراسة الأكاديميّة المتخصّصة في المملكة المتّحدة الإنكليزيّة. هنيئًا لكَ ما تنشّأتَ عليه من افترارٍ ودماثةٍ وتواضعٍ ونبلٍ وكَرَمٍ وكِبَرٍ وفروسيّةٍ وصلابةٍ روحيّةٍ ونظافةِ قلبٍ ويد. وهنيئًا ما اكتسبتَهُ من معارفَ وخبراتٍ، وما أنتَ عليه من معاييرَ وقيَم. هذا كلُّهُ سيكونُ زادَكَ في قرعِ أبوابِ المستقبل، وحجّتَكَ في مواجهةِ التحدّيات والمشقّات، متهيّئًا لما يخبّئُهُ لكَ الدهرُ، وأهلُهُ، من مفاجآتٍ قد لا تكون كلّها سارّةً، ومتحصّنًا حيالَ ما آلت إليه دنيانا من إدقاعٍ أخلاقيٍّ ومكرٍ وخبثٍ وانتهازٍ وطعنٍ في الصدر والظهر. وهلمَّ.

ليس عندي أيُّ شكٍّ في أنّكَ قادرٌ، بنباهتِكَ، بسلاسةِ روحكَ وعقلكَ ووجدانكَ، على جعل المستقبل، مستقبلكَ، ممكنًا، بما يعنيه ذلك من ارتقاء السلالم بوعيٍ، وتؤدةٍ، لكنْ بعزمٍ وحكمةٍ وبُعدِ نظر، وبما يفترضُهُ من تشبّعٍ بفلسفة الأمل، ومن صبرٍ وكفاحٍ يوميٍّ دؤوب، ومن انتظاراتٍ مضنيةٍ، قد تكون بطيئةً وطويلةَ الأمد، قبل تحقيق النجاحات المأمولة. 

وما المستقبلُ، يا عزيزي، يا صديقي، يا بُنَيّ، إلّا هذا التوقُ الهائلُ الذي يملأ كيانَكَ، ويجعلُكَ واثقًا من القدرة على تصييره ممكنًا، بل واقعًا ملموسًا، بالقوّة الفلسفيّة التي تُبارِكُ كيانَكَ، وبها تفكّكُ اللغزَ والالتباسَ والغموض، وتُذلِّلُ الوعرَ، وتطحنُ الشرَّ والحلكةَ والتشاؤمَ واليأس!

آلِهةُ هذا العالم، ومفاتيحُهُ، وحوشٌ وصيارفةٌ وقَتَلَةٌ وباعةُ ضمائر وخَوَنَة. ما هَمّكَ، أنتَ، ما دمتَ حصينًا رائيًا وذا بصيرة. ليس صحيحًا أنّ مواجهةَ المستقبل تُختَصَرُ بمعادلةِ "العدوّ من ورائكَ والبحر من أمامكَ فأين المفرّ؟". وإذا كان لا بدّ من معادلةٍ كهذه، فلتكن المواجهة بالعقل، بمولاكَ العقل، الذي يُريكَ سُبُلَ مجاهدةِ القرِّ والحَرِّ والبَرّ، كما غمار اليمّ والخضمّ، ومن وراء ومن أمام، ومن الجهات كلّها، ومن حيث أيضًا لا جهات.

قبل أيّام، أرسلتْ إليَّ أمُّكَ، الجملةَ أعلاه لصاحب "الأمير الصغير". ما أبهاها، الجملة (ووالدتكَ بالطبع)، وما أعمقَ المغزى. جلُّ ما فعلتُ أنّي احتفظتُ بها، بمضمونها. ثمّ، هذا الصباح، في الفجر المبكر، قلتُ لنفسي لا بدّ من أنْ أجعلَ الحكمةَ هذه في تصرّفكَ، في الخدمة، وأنتَ تتخرّجُ، وتخرجُ إلى مستقبلكَ مزوَّدًا عدّتَكَ، ينابيعَ الممكناتِ الغنيّة والهائلة، وكنوزَها، التي ستصيرُ بين يديكَ، ولا بدّ، وأيضًا لا محالة، ولا مفرّ، ستصيرُ أمرًا واقعًا وحقيقةً ملموسة.

ويا بُنَيّ، كلُّ ما عليكَ أنْ تفعلَهُ، لا أنْ تتوقّعَ المستقبل، أو أنْ تتنبّأ به، بل فقط أنْ تجعلَهُ ممكنًا. إسألْ صاحبَكَ "الأمير الصغير"، واسألْ مؤلِّفَهُ أنطوان دو سان إكزوبيري، تجدِ الجوابَ اليقينَ عندهما. والسلام.

الكاتب: الصحافي عقل العويط