لم أذهب إلى برشلونة سائحًا مترفًا واسعَ اليد والحيلة، بل زرتُها لمرافقة "أميري الصغير" في حفل تخرّجه الجامعيّ، ولأكون، ووالدته الشاعرة، إلى جانبه في افتراره الأكاديميّ المكين السخيّ، وتوقه الجامح الأبيّ العنيد إلى جعل مستقبله المهنيّ والحياتيّ ممكنًا، بالفعل وبالقوّة الفلسفيّة، على قول أنطوان دو سان إكزوبيري.

لكنّي لم أستطع إلّا أنْ أذهب إليها محمّلًا إرثَها الإنسانيّ والثقافيّ والحضاريّ والأدبيّ والفنّيّ والمعماريّ، وهو إرثٌ عظيمٌ لا يوزَن بميزان، ولا يُقاس بمقياس. 

هل يجب أنْ أقول مثلًا إنّي عشقتُ روحها الكاتالونيّة الشعبيّة الطيّبة اللذيذة الأصيلة المدرارة المضيافة، وإنّي أمضيتُ أيّامي الثلاثة فيها مشيًا مشيًا مشيًا، وليلَ نهار، كما لو أنّي لم أمشِ قبلًا، حتّى الإحساس بأنّي صرتُ بعضًا من أعمار أرصفتها المتراكمة على ممرّ الأجيال والعقود والأزمنة؟

هل يجب أنْ أفعل كما يفعل السائح، فأقول إنّي زرتُ "سيّدة البحر"، كاتدرائيّتها التي جعلتْني، بدون كثير عناء، كاهنًا، بل قندلفتًا، أمام نوطات أرغنها، وخادمًا على مذبحها، وعابقًا برهبة زجاجها المعشّق، وتقشّف مصلّيها ومقاعدها وكراسيها وأروقتها الغوطيّة؟ 

أم هل يجب أنْ أقول إنّي وقعتُ في غرام "التوحّش" الهندسيّ الذي ترفل به "العائلة المقدّسة"، وهي المعجزة المعماريّة التي اقترحها لنا غاودي، ولا تزال حتّى اللحظة، وإلى سنين مديدة، مشروعًا مفتوحًا على الولادات والإضافات الهندسيّة المستمرّة؟ 

أم، يا ترى، يجب أنْ أصرخ عاليًا كطفلٍ مصعوق، نعم يجب أنْ أصرخ، وأنا في رحاب المتحف الذي يحمل اسم الرسّام – الوحش، ويضمّ الهبة الفنّيّة المهولة التي قدّمها بابلو، بابلو بيكاسو، لمدينته، بل عشيقته برشلونة، وهي ربّما العشيقة الوحيدة بين عشيقاته - "ضحاياه" التي لم يخنها ولم يقتلها؟

لم أكن سائحًا في برشلونة، بل محض أبٍ و... شاعر. علمًا أنّي لستُ موهوبًا لأكون أبًا بل فقط الصديق. الصديق فحسب. وهذا منجزٌ أفتخر به، وبه أتباهى، لخلوّه – طوعًا وخيارًا - من الذكورة البطريركيّة والأبويّة.

لكنْ، يمكنني الآن أنْ أكون "أنانيًّا" بعض الشيء، و... مترفًا، فأتحدّث على طريقتي، طريقة المشّاء المجهول الهويّة الذي "شفطته" زواريب برشلونة العتيقة، المعمّرة، المقيمة على سجيّتها، المتنسّكة في حياتها الداخليّة، والتائهة في حياتها المرئيّة، على السواء.

لقد دوّختْني زواريبُ برشلونة، وسحرتْني وجنّنتْني.

ما أحببتُ شيئًا في برشلونة مثلما أحببتُ أزقّتها – الشعريّة – الضيّقة، التي تُصادِر – بل تحتلّ - المدينة القديمة، الأصيلة، الحاملة عطور التاريخ والجغرافيا والناس الذين سكنوها وتركوا أنفاسهم على جدرانها، ونظراتهم عالقةً على بلاكينها وشرفاتها، وشهواتهم منشورةً على حبال رغباتها المعلّقة. 

في تلك الزواريب، في تلك الحارات، شغفتُ بالعمارات المتوأمة، المتّكئة بعضها على بعضها، وأحيانًا الغافية بعضها على خفقات قلوب بعضها.

وكم تمنّيتُ لو أنّي – هناك – محضُ زاروب، أو محضُ رصيف، حيث الزواريبُ والأرصفةُ هي المواهبُ المطلقة، وهي الأشعارُ والقصائدُ والرسومُ والموسيقاتُ والعشّاقُ واللغاتُ والنظراتُ والمصافحاتُ والاختلاجاتُ التي يتبادلها الناسُ، بما يمكن أنْ تنطوي عليه كلمة "الناس" من أنسنةٍ تفوق كلّ اعتبارٍ وتفسيرٍ ومعيار. 

لقد دوّختْني زواريبُ برشلونة، وسحرتْني وجنّنتْني.

... عندما وصلتُ الى برشلونة مع إطلالة الفجر، تعجبتُ لرؤية الناس كأنهم في أوّل النهار في أوّل السهرة. ثمّ عرفتُ أنّهم لا ينامون لأنّهم يحبّون الحياة.

الشعب برمّته رأيتُهُ في ساحة كاتالونيا. الناسُ نهارُهُم وليلُهُم في جادّة RAMBLAS LAS الرامبلاس - شانزيليزيه برشلونة الشعبية! جلوسًا ومشاةً. في أواخر أعمارهم وأطفالًا وفتيانًا وكهولًا وبين وبين. لا يتعبون من الحبّ من الحكي من الحوار من المشي من العيش من التعبير عن الوجود عن الحياة. ما أجملهم هؤلاء الناس. لا أحسدهم، لكنّي أقول في قرارتي، ترى ما الذي يمنع الشعب، ما الذي يمنع الناس "عندنا" من أن يكونوا ناسًا كهؤلاء، في بلادٍ عاديّة حقيقيّة؛ ناسًا عاديّين طبيعيّين يعيشون بلادًا طبيعيّة وحقيقيّة،  ويعيشون الحياة والحرّيّة.

لا أخفي سرًّا أنّي وقفتُ طويلًا أمام "القطط الأربع"، المقهى - المطعم الذي كان يستقبل بابلو بيكاسو وأصحابه من النساء والفنّانين. القطط الأربع ما أجمله. ما أجملهنّ.

بطاقة "النهار" الصحافيّة أعفتني من رسوم الدخول لرؤية شغل غاودي وزيارة متحف بيكاسو ومعرض باسكيا ووارهول وآخرين.

... وها أنا عائدٌ إلى "البلاد" (القصيدة التي تصدر قريبًا لي بالعربيّة والفرنسيّة لدى أنطوان/نوفل) التي لا مرفأ فيها، ولا مدينة، بعد اغتيال المرفأ والمدينة؛ عائدٌ لأقول لها إنّي سأعود دائمًا إليها، كما لو أنّي لم أغادرها من قبل. كما لو أنّي لن أغادرها أبدًا ومطلقًا في أحد الأيّام الماضية المقبلة.

الكاتب: الصحافي عقل العويط 

 

كلام الصور:

قمر برشلونة هو دون قمر مشغرة بالطبع، لكنّه قمرٌ وبرشلونيّ.

ممرٌّ إلى فضاء الشعر.

حيث الناس قصائد.

اتكاء.

ساحة كاتالونيا ساحة الحياة.

متفرّع من الرامبلاس.