‎ظلم كبير يتعرض له مفهوم الزواج المدني في لبنان. فقد شكّل مؤخراً مادة دسمة لزجّه في زواريب السياسة والمناكفات. والبعض تعامل مع الفكرة بتطرف وصل الى حد التكفير! 

‎لطالما شكل حق الزواج المدني الاختياري في لبنان إشكالية وسجالاً حاداً بين المؤيدين من المجتمع المدني والمنظمات المحلية والدولية التي تتابع هذا الملف، والمرجعيات الدينية المعارضة للموضوع. على الرغم من ان الزواج المدني حق كرّسه القرار الصادر سنة ١٩٣٦، أي منذ الانتداب الفرنسي للبنان. وهو قرار ساري المفعول لا يتعارض مع القوانين المرعيّة أو الدستور. وينص على انه من حق كل شخص أن يختار فيما إذا كان يرغب في الزواج مدنياً أو دينياً". إلاّ أن المرجعيات الدينية ترفض رفضاً قاطعاً هذا الامر، وتتصدى له بشدة، وتبذل جهداً كبيراً لعرقلة تنفيذه. وبالنسبة لها لا خيارات في هذا الشأن. الزواج يجب ان يكون دينياً ويتبع شروط الطائفة المعنية وقوانينها. وعليه، فإن المرجعيات الدينية لم تتأخر يوماً عن شنّ هجمات شديدة اللهجة، تصل احياناً الى حد تكفير كل من ينادي بالزواج المدني. 

‎من جهة أخرى، لا بد من الاعتراف بأنه رغم كل الضغوط التي يمارسها رجال الدين، لم يتمكنوا من منع الزواج المدني لمن يرغب به. إن أعداد الناس الذين يختارون الزواج المدني يزداد سنة تلو الأخرى. فنحن نشاهد كثيراً من حالات السفر الى الخارج بهدف الزواج المدني. ويعود الزوجان الى لبنان ويسجلان زواجهما في الدوائر الرسمية ويصبح زواجهما معتمداً رسمياً. وبالتالي، ما يقوم به رجال الدين من محاولات قمع، تحث المعنيين على المزيد من التشبث بموقفهم كونهم يرون في هذا الأداء نوعاً من تحكّم المرجعيات الدينية في قراراتهم وحياتهم الشخصية. 

‎في الواقع ان الدين يمارس بالقناعة وليس بالغصب. لذا لا بدّ لرجال الدين من كل الطوائف معالجة هذا الملف من منظار مختلف بدلاً من التصادم.  

  يجب احتضان من يختلف معهم بالموقف والرأي. لذا من الواجب السماع الى هذه الشريحة من الناس والاصغاء الى هواجسها ومخاوفها، ومعرفة أسباب لجوئها الى الزواج المدني، ومن ثم معالجة هذه الأسباب. وفي حال تعثّر حل الأسباب لدوافع عقائدية دينية، لا يجوز اتهام هذه الفئة بالكفر، فقط لأنها اختارت الزواج المدني. فهي انتقت هذا الخيار ليس من منطلق رفض لجوهر العقيدة الدينية، بل بحثاً عن حلول اجتماعية لوضعها التي لم تتمكن القوانين المعتمدة لدى الطوائف حلها، ان كان من حيث المساواة بين الرجل والمرأة او إمكانية الزواج بين الطوائف المختلفة دون تخلي أحد الطرفين عن دينه، أم إمكانية الطلاق بسهولة في حال عدم التوافق بين الزوجين. 

‎إضافة الى ذلك، إن الازدواجية في التعاطي مع هذا الحق فادحة، وتشكل مساساً بمفهوم العدالة الاجتماعية من حيث المواطنة والإنسانية. فالأشخاص المتدينون (وانا واحدة منهم)، والملتزمون بتعاليم طوائفهم ويحبذون الزواج الديني، يجب أن تُحترم قناعاتهم وأن يكون لديهم حرية التطبيق. أما الشريحة الثانية المقتنعة بالزواج المدني ولديها أسبابها، فهي تقع تحت وطأة الضغوط ويُسلب حقها في احترام الحريات العامة، مما يضعنا أمام حالة عدم مساواة بين اللبنانيين. فهذا خرق جسيم للدستور الذي ينص على "احترام الحریات العامة" و "العدالة الاجتماعیة والمساواة في الحقوق والواجبات بین جمیع المواطنین دون تمایز أو تفضيل".  

‎في نهاية المطاف أتمنى ان يتحوّل هذا الموضوع من جبهة اصطدام بين مؤيدين ومعارضين، الى محور لنقاش بنّاء يؤسس لأرضية مشتركة تصل الى نتيجة مرضية لجميع الفرقاء وان كانت بحدها الأدنى، كما هو الحال في العديد من الدول التي يلحظ دستورها النظام الديني ولكنها تسمح بالزواج المدني كدولة الامارات العربية المتحدة وماليزيا. والسبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف يتطلب تشكيل لجنة تتضمن المعنيين كافة من سياسيين ومشرّعين ورجال دين، مع ارادة حقيقية للسعي دائماً لمعالجة الخلافات والاختلافات بما يرضي ويسعد المواطن، ويؤمن ديمومة الحياة الاجتماعية

الكاتبة : رويدا هيكل الخازن