"لا سبب للقسوة"، يقول عنوان إحدى القصائد في ديوان الشاعر فادي العبدالله الجديد، "البياض الباقي"، الصادر لدى "مؤسسة دار الجديد". لكنّ قراءة القصيدة، كما الديوان برمّته، تجمع أسبابًا شتّى، وجوديّة وفلسفيّة وحياتيّة، تدحض هذا النفي دحضًا ذريعًا، وتقدّم مطالعةً شعريّةً واثقةً (لكنْ صامتة و... بيضاء) بالقسوة الرهيبة التي تفترس الشاعر وبلاده والعالم والشرط البشريّ مطلقًا.

ليس من صخبٍ في هذه المجموعة الشعريّة. ليس من ضوضاء. الميت يمشي على هامش العيش، بين النسمة والنسمة، في الوقت المخطوف برقّة الوجع والحبّ، يسري في شرايين الكلمات، كما يخترق "بياضٌ باقٍ" حلكةً لم يعد في مقدور أحدٍ أنْ يتفادها، أو أنْ يتعايش معها. في هذا المناخ، تنمو قصائد الديوان نموًّا داخليًّا، هادئًا، لطيفًا، عميقًا، أكان ذلك في طرابلس، أم في بيروت، أم في باريس، أم في لاهاي، أم في البحر الغريق، أم في الصحراء، واسبانيا ونيويورك، وسواها. لكأنّ هذه القصائد ترافق خطوات الكائن الهادئ، في عيشه وموته، في حلّه وترحاله، في عزلته وانكشافه، في مرارته وشوقه، لكنْ من دون أنْ تُقلق لا حياته ولا موته، أو تؤذي ذكرياته ومناماته وأحلامه.

بياضٌ قليلٌ لكنّه يكفي هذا الكائن ليتنفّس، ليرى، ليحلم، ليحبّ، ليفكّر، ليواصل مطالعته، بالشعر، لوقائع الجريمة الوجوديّة النكراء، موسّعًا المكان "الباقي" للبياض للصمت للموسيقى للشعر للفنّ للكتب للأحباب للأصدقاء للأحلام للذكريات للشجر للأمكنة للمدن للمقاهي للأرصفة للبساتين للحدائق للبيوت للبحر، وهي العدّة الخلّاقة التي يواجه بها الشاعر عالمَ القسوة الهمجيّة، وظلمته التي تتوالد عتمتها كما يتوالد الشرّ العميم في رحم هذه الحياة المعذّبة. 

هنا حشرجةٌ، هنا هولٌ، هنا غرباء، هنا غيابٌ، هنا وطنٌ ولا سكن، هنا ملحٌ، هنا ما لا يقبل لحنًا ولا ترجمةً، وها هنا بياضٌ باقٍ يتأمّل، يفكّر، يفلسف، يصمت، ينسلّ تحت الجلد، ليغوص في وعيه في لاوعيه، فيقول ما يسع الشعر قوله، وما لا يسع الشعر قوله.

"البياض الباقي" خمسة أقسام؛ الانحياز إلى الملح، ما لا يقبل لحنًا ولا ترجمةً، نحت الصمت، الهبات، وبطاقات حبّ، هي قوام الصفحات المئة والستّين التي يحتضنها الديوان. الشاعر هنا، هو نفسه ذلك "الغريب" الذي في "يده كاميرا"، وهو إيّاه الذي "أشاطركِ الألم برهةً والودّ طويلًا". فليس "غريبًا" ولا من الغرابة في شيء، أنْ يحمل الغلاف الخلفيّ لديوانه حجّةً (أي برهانًا) فحواها أنّ "الشعر أفضلُ ما فينا. الباقي تراب"، وتعريفًا بالشاعر كونه "صاحب مساراتٍ علميّة وفنيّة وأدبيّة استثنائيّة قرنت بين الشعر والموسيقى والنقد والقانون". فادي العبدالله من "مواليد طرابلس – لبنان؛ مقيم في لاهاي – هولندا فهو الناطق الرسميّ باسم المحكمة الجنائيّة الدوليّة".

في ليل العالم، وفي ليل الحياة، ثمّة بياضٌ باقٍ، وثمّة مَن ينحت الصمتَ لغةً لهذا البياض. ها هنا دعوةٌ إلى القراءة.

الكاتب: الصحافي عقل العويط