بعد سقوط لبنان في اعمق أزمة نقدية شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر تكاثرت الكتابات والابحاث والتقارير عن امكانية وسبل استعادة الليرة اللبنانية عافية مؤهلة للصمود امام الازمات لا قوة زائفة تهوى امام الصدمات  

بلوغ هذا الأمر يتطلب بداية نظرة استعراضية للتوجهات الاساسية لمختلف العملات العالمية للتعرف على المنطلقات التي اسست للقوية منها وما يمكن اعتماده منها نسخا او تعديلا    

▪︎نبدأ بالعملة السويسرية، ونحيل بشانها الى قول للاستاذ Rene Sedillot ذكر فيه ان معجزة الفرنك السويسري هي نتيجة ثلاث معجزات: 

• معجزة سياسية وهي اعتماد سكان سويسرا الحياد وتشددهم بممارسته 

• معجزة اقتصادية وهي ظهور صناعة وطنية مشهود باتقانها: الساعات والشوكولا والادوية وغيره.....

• معجزة مصرفية أقامتها مصارف منفتحة على تادية خدمات مصرفية باعلى المعايير لكل ارجاء المعمورة

اهمية الحياد في التاسيس لعملة قوية اخذت به النمسا لاحقا، وقد رات ان تتجهز كسويسرا بقانون للسرية المصرفية وايضا بقانون اخر يسمح بفتح حسابات رقمية لا يعرف اصحابها الا المدراء المعنيين في المصرف

كما نحت بذات الاتجاه اللوكسمبورغ وسنغافوره فاضافا التخصص بنشاطي الهولدنغ وادارة الاستثمارات الى خدماتهما المصرفية والمالية وكانت النتيجة جد باهرة

ذات الامر انتهجه لبنان عمليا في الـ 10 سنوات الاولى بعد استقلاله اذ اعتمد علنا 

شعار "لا للشرق لا للغرب" وتجهزكما فعلت سويسرا والنمسا بقانونين للسرية 

المصرفية وللحسابات المرقمة ونتج عن ذلك ان احتلت الليرة اللبنانية مركزا متقدما  

في مكاتب الصيرفة العالمية دفع الامر بدولتين كالهند والجزائر الى الاقتراض  

بالعملة اللبنانية 

▪︎التمتع بثروة طبيعية من محصولات زراعية كالقمح، ومواد اولية للصناعة كالغاز والنفط والماس واليورانيوم، وايضا الذهب والفضة كما الموقع الجغرافي كلها امور يمكن ايضا توظيفها لدعم تجهز الدولة بعملة قوية من خلال دفق العملات الاجنبية التي تؤمنها الوفورات السابقة

▪︎كذلك الانضمام الى اتحاد نقدي ناجح يمكن ان يؤدي الغاية المطلوبة وهذا ما حصل مع الدول المؤسسة لمنطقة الـ EURO والدول التي انضمت اليها نتيجة تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، خصوصا ان من شروط الانضمام الى منطقة الـ EURO تحقيق الدولة العضو انضباطا صارما في المالية العامة وتجهزا بمصرف مركزي مستقل يحظر عليه رفد الخزينة العامة باي تمويل من اي نوع كان سوى تسهيلات صندوق طارئة ولحد معين  

امر شجع عدد من الدول: روسيا والصين والهند وجنوب افريقيا للانضواء ضمن مجموعة عرفت بالبريكس BRICS بهدف التعاون فيما بينها بالامور الغذائية والمالية توصلا لاعتماد عملة خاصة بهذه المجموعة في مرحلة متقدمة. التحدي الذي واجه هذه الدول هو ان اقتصادياتها تعتمد على تصدير المواد الاولية او التصدير للاسواق الخارجية ، والاولى عرضة لتغيرات عميقة في الاسعار كما حصل في النفط، والثانية عرضة للتقلبات في الطلب  

لذا تم العمل كمرحلة تحضيرية للتخطيط لانتظام الصين وهونغ كونغ وسنغافورة وماليزيا واندونيسيا والتشيلي في تجمع دعي "صندوق النقد الصيني "يرمي الى تحويل العملة الرسمية للصين الـ Yuan لتكون عملة احتياط معتمدة عالميا يمكن البدء بشراء النفط بها   

ايضا كانت هناك مبادرة مماثلة من قبل عدد من دول الخليج لانشاء اتحاد نقدي خليجي اقرت اتفاقيته في حزيران 2009 ووضعت لاحقا وثيقة النظام الاساسي للمجلس النقدي الذي ترك له تحديد البرنامج الزمني لاصدار العملة الخليجية العربية الموحدة 

▪︎النظريات الشمولية الحديثة في النقد والصيرفة والمال والاقتصاد كنظرية المصرف الاسلامي والاقتصاد الاسلامي لم تنجح في اخراج نقد يمكن ان يكون له دور منافس على الصعيد العالمي ، فالدينار الاسلامي نشا مرتبطا بوحدة حقوق السحب الخاصة SDR وهذه تحدد قيمتها بسلة من العملات العالمية ، كما اثبتت التطورات الاخيرة ان اعتماد معدل فائدة صفر كما تدعو اليه النظرية الاقتصادية الاسلامية لم يشكل محركا فاعلا للاقتصاد لا في اوروبا ولا في اليابان  

▪︎ايضا لم تلق رواجا نظرية اعتماد الدينار الذهبي الذي دعا اليه الرئيس السابق مهاتير محمد ، فهذه الدعوة اعتبرت عودة الى الوراء وهو امر قرر مؤتمر Bruxelles لعام 1920 استحالة استعادته ويصب فقط في مصلحة الدول التي تكتنز الذهب او تتمتع بميزة طبيعية في استخراجه

▪︎كذلك واجهت فكرة مجالس النقد Currency Boards انتقادات حالت دون انتشار اعتمادها، فهي في نشاتها كانت بمثابة ترتيبات نقدية monetary arrangement اعتمدت في المستعمرات الانكليزية لتحقيق الاستقرار النقدي والاستقرار في الايرادات العمومية. وقد هجرت من قبل هذه المستعمرات بعد حصولها على الاستقلال على اعتبار انها من مخلفات عهود الاستعمار ولا تصلح لتحقيق سياسات نقدية ذاتية

بالطبع لا يمكن انكار حسنات مجالس النقد المتنوعة، فهي تضبط بصرامة الاستقرار والتوسع والربط النقدي وتدعم الثقة بالعملات المصدرة عنها وتحفز نمو الناتج لكنها تدفع بالمقابل الى التخلي عن السياسة النقدية المستقلة والى الحد من قدرة المصرف المركزي على العمل كمقرض أخير Lender of last resort في أزمات السيولة كما تفقده مداخيل سك العملة seignorage revenues وهي، اي مجالس النقد ، غير ضرورية في حال التمكن من ارساء المصرف المركزي المستقل خصوصا عندما يكون الامر بنص دستوري ولا يمكن اعتمادها من قبل الدول التي تعاني من عجز مستمر في ميزان مدفوعاتها قبل ارساء الحوافز الناجحة لدخول الرساميل اليها بالعملات الاجنبية ( في لبنان من غير المتوقع الخروج قريبا من العجز بميزان المدفوعات في ظل الاستمرار بوجود ميليشيا مسلحة خارجة عن سلطة الدولة والقانون تنفر المستثمر من التوظيف في البلد من لحظة خروج سيارته من مبنى المطار وتضع البلاد في حالة خصام وعداء مع دول الاقليم وخارجه)

▪︎الظروف التاريخية كانت وراء الريادة الاستثنائية للـ Pound الانكليزي والـ Dollar الاميركي صحيح انه لا يمكن التاسيس عليها من اجل استعادة نموذج لعملة وطنية قوية ومع ذلك من المفيد استعراضها لضرورات البحث المقارن 

1- أسباب ريادة الـ Pound تعود الى توسع الامبراطورية الانكليزية في شتى ارجاء المعمورة حتى اطلق عليها في وقت من الاوقات لقب الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس . امر سهل لعائلة Rothschild اليهودية ،بعد سيطرتها على مصرف انكلترا، مواكبة هذا الانتشار الجغرافي وسبق الاخرين بنشر فروع مصارف العائلة في جميع بقاع الانتشار البريطاني ما دفع الى اعتماد الـ pound في جميع البلدان التي رفعت العلم الانكليزي  

2- عائلة Rothschild كانت ايضا وراء التخطيط للاستفادة من الفرصة التاريخية التي سنحت بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية والمتمثلة برغبة الاطراف الدوليين اعتماد عملة وفاء ومقاصة دولية ، اذ تمكنت من فرض الـ Dollar المصدر من الـ FED (المصرف المركزي الاميركي) والذي تديره مصارف، للعائلة فيها نفوذ كبير ، على انه العملة المنشودة، من خلال اسقاط مشروع الاقتصادي الانكليزي الشهير John Maynard keynes الرامي الى انشاء عملة عالمية مصدرة من صندوق تساهم فيه كل دول العالم ، ودعم مشروع المندوب الاميركي السيد Hary Dexter White في مؤتمر Bretton Woods والقاضي باعتماد الـDollar الاميركي عملة الالتزامات الدولية على ان تحدد قيمته ذهبا (35 دولار للاونصة الواحدة) كما هو الامر بالنسبة لسائر عملات العالم وتستبقى الاحتياطات الذهبية الاجنبية في الولايات المتحدة الاميركية ، ويكون للدول حرية رد ما تحوزه من دولارات الى الولايات المتحدة الاميركية ومطالبتها بما يقابل هذه الدولارات من الذهب وفقا للسعر المحدد للدولار 

الطلب المفاجىء للرئيس الفرنسي De Gaulle باستبدال مبلغ ضخم من الدولارات تم تسليمه الى الـ FED بما يقابله ذهبا تنفيذا لاتفاقية Bretton Woods والخوف من ورود طلبات اخرى مماثلة وغير ذلك من الضغوطات دفعت الرئيس Nixon الى الاعلان رسميا ومن جانب واحد في 15آب من عام 1973 عن فك ارتباط الدولار بالذهب مطلقا بداية ما اتفق على تسميته نظام "سعر الصرف العائم" 

لم يؤد هذا القرار كما اتفاق عدد من الدول الاوروبية لاحقا على اعتماد عملة اوروبية واحدة هي الـ Euro مصدرة من مصرف مركزي واحد على المس بريادة بالـ Dollar في عمليات الوفاء وتسوية الالتزامات الدولية والسبب الاساسي عدم اندماج مالية دول الـ Euro الامر الذي وقف عائقا امام اصدار سند دين اوروبي مقوم بالـ Euro يزاحم سند الخزانة الاميركية المصدر بالـ Dollar الاميركي

▪︎البلد الرائد في النجاح بالتخطيط الهادف الى التجهز بعملة قوية هو بلا ريب المانيا وقد اسند مهندسو هذا التخطيط اعمالهم الى المآسي التي عاشها الالمان من انهيارين نقديين مريعين عصفا بوطنهم في عشرينات واربعينات القرن المنصرم وضرورة الاتعاظ منهما وعدم تكرارهما مجددا كما الى باقة من التوجهات الرئيسية التي اضاءت الطريق للتاسيس لمستقبل نقدي واعد وراسخ لالمانيا ومن بعد للقارة الاوروبية

باكرا تم الانتباه في المانيا الى اهمية "الثقة" بالدولة ككيان سياسي في المسالة النقدية فالاقتصادي Walther Funk الذي عمل وزيرا للمالية ورئيسا للـReichsBank  

يرى ان المسالة النقدية هي على الدوام مسالة "ثقة" وهي اهم من الذهب والعملات الاجنبية وتقدم عليهما

The monetary question is always a question of trust. The security of a currency is determined not by gold and foreign currency, not by a portfolio of securities , but by the internal and external strength of the state .

 اول حاكم للـ BundesBank الاقتصادي Karl Blessing راى ان اكتساب عملة صعبة يتطلب غالبا الانطلاق من قرارات وتدابير صعبة

There can be no hard currency without hard measures

المستشار Adenauer ابو المعجزة الالمانية قدم في اول اجتماع لحكومته جردة بمحتويات الخزانة بعد سقوط النظام النازي فذكر انها تحتوي : صفر سبيكة ذهبية وصفر عملة اجنبية..... لكنه استرسل قائلا ان اعادة ضخ العملات الاجنبية في الاخيرة يتطلب اعادة تسريع الانتاج الصناعي على نحو تتكون فيه القناعة لدى الخارج ان شعار "صنع في المانيا" made in Germany هو شعار الثقة والجودة بامتياز ، وهذا الامر يعتبره مع اعتماد الحياد في العلاقات الدولية مقدمة اساسية لاعادة التجهز بمارك قوي . التوجه الاخير في ادارة الامور دفع البعض الى اعتبار المستشار Adenauer واحدة من الحالات النادرة في التاريخ التي حصل فيها شخص على رضاء وتقدير فريقا نزاع مسلح

The rare case where the conquered is very satisfied with the conquerer

الامر الثاني الذي شدد عليه المستشار Adenauer في مداخلته كان ضرورة تسييج المصرف المركزي بـ"استقلالية دستورية" صارمة حتى لا يستعمل المصرف من قبل اي سلطة مستقبلية لتمويل اي مغامرة عسكرية قد يخطر ببالها القيام بها وايضا لتحقيق راسخ للاستقرار في الاسعار

هذه الاستقلالية اكد عليها باكرا عام 1948 رئيس المصرف المركزي Wilhelm Vocke حيث اعتبرها اهم الموجودات وتتقدم على الذهب واحتياطي العملات الاجنبية

The independence of the bank and its leadership is an absolute necessity. Only when independence is guaranteed on all sides will the central bank be able to earn that asset which is more important than popularity and applause, yes, even more important than gold and foreign exchange – trust at home and abroad. 

زوار الـ Bundesbank غداة تاسيسه كانوا غالبا ما يسمعون من رجاله انهم يمارسون الاستقلالية بمفهوم autonomous او autonomy للدلالة على معناها العضوي والوظيفي الاوسع من كلمة independent ويرون بممارستهم في عملهم لهذا المفهوم من الاستقلالية مهمة دفاع وطنية كتلك التي يقوم بها الجيش ، فاذا كان الاخير هو سياج الامة من العدو ومن الخطر الخارجي ، فانهم يعتبرون انفسهم سياجها من الخطر الداخلي من انحراف الحكومات عن الانفاق غير السوي المفضي للتضخم والانهيارات النقدية والاضطرابات الاجتماعية

ويضيفون ان اهمية المصرف المركزي هي في تعزيز الديمقراطية في بلادهم ، من خلال رفدها ودعمها بالمريتوقراسية Meritocratie التي قد تفتقدها في بعض الاحيان عندما تفرز قنوات الديمقراطية اشخاصا في السلطة على عدم دراية كافية ومسؤولة بالمسألة النقدية .

ويسترسلوا بانهم يقوموا برصد مجمل الاداء السياسي عن طريق تتبع الآثار النقدية والاقتصادية لقرارات المسؤولين، فاذا تلمسٌوا اي اثر سلبي لها على سلامة النقد الوطني ، لفتوا الانتباه الى ذلك خفرا ، واذا تعلق الامر بمسألة مبدئية جاهروا بموقفهم بكل مسؤولية طالبين عند اللزوم المؤازرة الشعبية ضد خطر الانحراف السياسي على استقرار البلاد النقدي، الامر الذي دفع باحدهم الى وصف الـ BundesBank " بمرشد العمل السياسي في البلاد " وبآخر الى اعتباره " الحكومة الاقتصادية الدائمة للبلاد."

وعندما يسأل رجال الـ BundesBank عن مصدر قوة وسلطة مصرفهم يبتسمون ويحيلون السائل الى كلام ستالين الساخر عن "عدد جنود بابا روما" ، وكأنهم يريدون ان يذكروا بان سلطة الـ BundesBank هي بالدرجة الاولى سلطة معنوية وترتكز على حسن قراءته للاحداث وصحة توقعاته على الدوام، فهي سلطة عقل وفكر وضمير قبل ان تكون سلطة اصوات وعتاد وجنود

الكاتب David Marsh يعتبر في كتابه المعنون " البوندسبنك المصرف الذي يقود اوروبا" The BundesBank The Bank that rules Europe والذي حصد جائزة افضل كتاب لعام 1992 ان" الـ BundesBank هو افضل ما صنع في المانيا" the best made in Germany

بعد سقوط حائط برلين ظهرت كتابات عدة تتحدث عن مستقبل المارك والتوجه لاعتماده في القسم الشرقي من المانيا بمعدل تحويل معين مع عملة الاخير ، امر دفعنا آنذاك الى المشاركة بمقال نشرته جريدة "الحياة" بعنوان "الـ Deutshe Mark فوق جميع الالمان ام فوق الجميع" فكان من المقالات القليلة التي توقعت اعتماد العملة الالمانية ، بالتحديد قواعدها، ليس فقط في الالمانيتين بل لاحقا على كل المساحة الاوروبية من خلال التاسيس للـ Euro

▪︎من تجارب الاخرين السابقة يمكن باختصار عرض الاسسس والمنطلقات التي يتعين اعتمادها في لبنان للتجهز بعملة قوية ومستقرة على النحو التالي :

1- منطلقات سياسية اساسية

ضرورة العمل على اعادة تقديم الدولة اللبنانية ذاتها على المسرح العالمي كدولة جديرة بثقة واحترام الجميع  

والخطوة الاولى في ذلك اعادة فتح المسؤولين نقاش وطني عام حول اهمية الحياد للبنان توصلا لاعلان وثيقة وطنية تتبناه صراحة وعلانية وتودع الامانة العامة للامم المتحدة لعرضها على الجمعية العامة للامم المتحدة لاخذ العلم بها ولاتخاذ الاخيرة القرار المناسب بشانها كما حصل مع سويسرا ، على ان يتزامن الامر باجراء تعديل دستوري يدرج الحياد في مقدمة الدستور وايضا باطلاق حملة توعية عامة تشرح وتوضح للمواطنين اللبنانيين مزايا هذا القرار وتاثيره الحيوي على عملتهم الوطنية وبالتالي على ارتقاء مستوى حياتهم اليومية مستقبلا

ويمكن هنا الاستئناس بما قدمته سلطنة عمان للمجتمع الدولي من خدمات من استضافتها ورعايتها جلسات حوار بين الايرانيين والمجموعة الدولية التي فاوضتهم وتفاوضهم بخصوص النشاط النووي الايراني، وايضا رعايتها لحوار دولي اخر بخصوص اليمن ، كما حوار سري ايراني اميركي ، واخرغير مباشر بين ايران واسرائيل بمواضيع عدة ، كما حوار بين ايران والسعودية وغيره ...والسؤال الذي يطرح ذاته في هذا المضمار لماذا هو مسموح لسلطنة عمان ان تكون منصة حوار اقليمي ودولي ولم يمنعها ولم يلعنها احد على ذلك ، ويمنع على لبنان اعلان حياده وممارسة دور هذه المنصة ؟

الخطوة الثانية ضرورة ضبط السلاح الخارج عن سلطة الدولة ايا كانت الحجة المبداة لاقتنائه، ويمكن الاخذ هنا بالنموذج السويسري الذي يتحول فيه المواطنون عندما يدق النفير الى مقاتلين للدفاع عن بلدهم خلال ساعات معدودة ، او حتى بالنموذج الايراني حيث تنص المادة 151 من دستور الجمهورية الاسلامية الايرانية على عدم جواز اقتناء المواطنين السلاح ولا يسمح بذلك الا في الحالة التي تقررها الحكومة على ان يكون الامر تحت سلطتها ! 

الخطوة الثالثة ضرورة ضبط الحدود الشرقية لمنع عمليات تهريب البضائع والممنوعات خصوصا الاخيرة التي كانت من بين الامور التي افسدت علاقة لبنان مع عدد من دول الاقليم وخارجه واثرت سلبا على صادراته اليها ، فالنقد السليم يتطلب مالية عامة سليمة ، والاخيرة تتطلب ضبط صارم لايرادات ونفقات الخزينة حتى لا يكون هناك تسرب الى ما وراء الحدود ، والمطلوب هنا العمل على اعادة تفعيل القرار رقم 128 الصادر عن مجلس الامن عام 1958 والذي قضى في حينه بارسال فريق مراقبة الى لبنان لضبط عدم حصول اي تسلل غير قانوني للافراد وتوريد الاسلحة او الاعتدة الاخرى عبر الحدود اللبنانية. جدير بالذكر ان القرار المذكور هو اول قرار اممي يتعلق بلبنان منذ نشاته وصدر بخصوص اعتداءات على اراضيه ، واللافت ان الاعتداءات المذكورة اتت من الحدود الشرقية لا من الحدود الجنوبية !!

2- منطلقات دستورية حيوية

ضرورة اعادة تحديد مهام وصلاحيات " حكماء الامة" على حد تعبير المستشار الالماني Adenauer والذي عنى فيه المحكمة الدستورية ، والمطلوب الملح هنا في لبنان بالنسبة للمجلس الدستوري ، الاقتباس من التعديلات التي اصر المستشار Adenauer على ادراجها في مهام محكمة Karsluhe الالمانية لانتظام عمل السلطات في بلاده ، واهمها التالي (1) توسيع دائرة الذين يحق لهم مراجعة المجلس فلا يحصر بالسياسيين وممثلي الطوائف بل يفتح المجال امام جميع المواطنين ليكون لهم الحق ، ضمن الية معينة، بالطعن في جميع القوانين التي يقدرون انها تخالف الدستور وليس فقط ما يصدر من قوانين جديدة حتى لا تكون هناك نصف عدالة، كما بالطعن بالقوانين والقرارات التي تصادر حقوقهم الدستورية على الاخص حق الملكية ومنها بالطبع ملكية الودائع المصرفية وتفرعا حقهم بالاستقرار النقدي (2) منح المجلس الدستوري صلاحية البت بوضعية جميع الاحزاب العاملة فيعلن عند الاقتضاء حلها ومنع اعضائها من الترشح لاي انتخابات في حال التاكد من وجود انحرافات في اداء هذه الاحزاب من نوع عدم اعتماد الديمقراطية في الية عملها وارتباطها بالخارج عقائديا او تمويلا وغيره ... ويصدق الامر على قوى الامر الواقع التي تسمي نفسها دون حصولها على العلم والخبر القانوني وخضوعها للضوابط التي تخضع لها الاحزاب الرسمية (3) منح المجلس الدستوري صلاحية البت بالنزاعات ما بين السلطات والمثارة بسبب التضارب بتفسير النصوص التي تحكم عملها ما يردم فجوة كبيرة في العمل السياسي والاداري ظهرت عند وضع اتفاق الطائف موضع التنفيذ وتمثلت بعدم وجود مرجعية تحسم الامور عند الخلاف بين فرقاء المنظومة المتحكمة

ايضا ينبغي تحصين المصرف المركزي باستقلالية من نوع الـ autonomy حسما لاي تاويل في امكانية تدخل السلطة السياسية في تنفيذ السياسة النقدية والزام المصرف بتمويل انفاقاتها ، والسبيل لذلك وقطعا لاي تفسيرانحرافي للنصوص هو النص الصريح على هذه الاستقلالية في الدستور وليس في القانون بحيث يعتبر اي افتئات من الحكومة على صلاحيات المصرف المركزي او انحراف من قبل الاخير في متطلبات الاستقرار النقدي خرقا للدستور يكون للمجلس الدستوري التصدي له تماما كما هو الامر عليه في سويسرا والمانيا  

والاقتراح السابق لا ينبغي ان يحجب امور اخرى على قدر كبير من الاهمية تقتضي ان تتضمنها اي عملية اعادة هيكلة ضرورية لا بل ملحة لمصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف في مقدمها فصل نشاط الاشراف وتنظيم القطاع المصرفي من يد مصرف لبنان وايلائه لهيئة مستقلة تعهد اليها كافة مهام لجنة الرقابة على المصارف وهيئة التحقيق الخاصة والهيئة المصرفية العليا على النحو المعتمد في العديد من الدول الاوروبية الغربية : في المانيا الـ BAFIN ، في سويسرا الـ FINMA ، في انكلترا الـ FSA وفي بلجيكا الـ CBFA ...... 

الخلاصة:

المنطلقات المحكي عنها ينبغي تعزيزها لتثميرها على الصعيد النقدي بمبادرات وتشريعات ترمي الى تعزيز فرص استعادة لبنان ريادته التي فقدها في السنوات الاخيرة في مجال الخدمات : التعليم ، والاستشفاء والتجارة المثلثة ، والنقل البري والبحري ، والسياحة بتفرعاتها الست : الصيفية والشتوية والدينية والاستشفائية والتاريخية وسياحة الاعمال والمؤتمرات مع تركيز على اولوية استعادة الدور المصرفي والمالي المحوري الذي تمرس به لبنان لمدة من الوقت زمن البحبوحة والخطوة المحورية في هذا المضمار تاسيس خطط التعافي والنهوض على ركائز تضمن ليس فقط استعادة المودعين لحقوقهم كاملة ما ينعكس ايجابا على سمعة القطاع المصرفي بعد اعادة هيكلته بل ايضا التشدد بتسييج عملياته بضوابط العمل العصرية ضد اي عثرات مستقبلية 

ان تحويل لبنان الى اقتصاد منتج من خلال تعزيز فرص نجاح المشاريع الزراعية والصناعية والخدماتية على اهميته يجب ان لا يحجب النظر عن ان الاقتصاد المالي في العصر الحديث والذي محوره ادارة المشاريع والفرص الاستثمارية وما اكثرها في المنطقة وما احوج الاخيرة للمزيد منها هو مصدر مهم ان لم يكن يفوق اهمية لما سبق الكلام عنه في تعزيز ميزان المدفوعات وبالتالي في تعزيز قيمة ومتانة العملة الوطنية واكبر دليل على ذلك القفزات الكبرى التي سجلتها اقتصاديات دول صغيرة نحت نحو اقتصاد ادارة المشاريع والاستثمارات منها سنغافورة وقبرص واللوكسمبورغ وغيرها .....

ويمكن هنا التفكير بمشروع متطور يقوم على فكرة تقدم لبنان فضلا عن مشاركته بالجامعة العربية بطلب الانضمام الى الاتحاد الاوروبي كعضو مراقب على اساس ان تسمية القارة الاوروبية Europa يعود حسب الاسطورة الـ mythologie الرائجة الى ابنة ملك صور التي هام في حبها الاله Zeus مذ ان راها من بعيد تلهو على الشاطىء فتمثل في ثور وديع ابيض دنا منها واغراها على الركوب على ظهره لينطلق بها بعيدا عبر الامواج عن مكان اقامته مع زوجته الغيورة Hera الى جزيرة Crete حيث تزوج من Europa ورزق منها بثلاث اطفال 

العضوية كمراقب تمنح لبنان حق الاشتراك في الجمعيات العامة للاتحاد الاوروبي دون حق التصويت وتاشيرة سياحية للبنانيين لمدة محدودة للتنقل في القارة الاوروبية واعتماد العملة الاوروبية في مرحلة اخيرة شريطة تنفيذ لبنان جميع الشروط التي تطلب عادة للانضمام الى منطقة الـ Euro وهي شروط تخضع للرقابة المستمرة لجهة التقيد بها كما هي افعل واصرم واشمل من تلك التي يطلبها صندوق النقد الدولي والتي هي بطبيعتها ظرفية لمدة معينة من الوقت 

الفيلسوف الانكليزي Bertrand Russel ذكر في نهاية رحلة قام بها الى لبنان في بداية ثلاثينات القرن الماضي ان زيارته كشفت له عن البلد المؤهل لان يكون بفضل وفوراته الطبيعية وموقعه الجغرافي البلد الاثرى ومواطنيه الاعلى دخلا على ضفاف البحر الابيض المتوسط . والكلام هذا صدر قبل تسعين سنة من التقارير الحديثة التي تتحدث عن ثروة نفطية وغازية هائلة تختزنها المناطق البحرية الخالصة للبنان 

ان اتساع درجة الفقر وانهيار الليرة وتضخم الدين العام والخسائر السيادية وانعدام الخدمات العامة وهي جميعها مؤشرات معاكسة لتوقعات الفيلسوف الانكليزي Russel وغيره كثر لهو اكبر دليل ساطع على فساد المنظومة التي تتحكم بالبلاد بالتضامن والتكافل والتحاصص وعلى ان الحل الجذري لن يتم الا بالخلاص من رموزها قاطبة : كلن يعني كلن لا تستثني واحد منن !!!!

الكاتب: الدكتور توفيق شنبور