... وأنتَ يا قمح الأهراءات، أنظرْني جيّدًا، وعينًا بعين: إيّاك أنْ تخضرّ، وأنْ تنمو، لئلّا يعرقل اخضرارُكَ المسموم مسيرةَ جهنّم وعهدَ الجحيم الميمون. 

وأنتِ، أيّتها النيران، أصيخي إليَّ مليًّا مليًّا: اضطرمي وتأجّجي، ثمّ اضطرمي وتأجّجي، واشهقي ارتفاعًا وصعودًا، والهثي وانفثي وتسلّقي المراتبَ والطبقات، واشتدّي نزولًا وقعرًا وقاعًا، وتمدّدي، وانتشري في جهات لبنان كلّها، والتهمي ما شئت – ومَن شئت – أنْ تلتهميه. وإيّاكٍ أنْ تهمدي، وأنْ تخمدي، وأنْ تتعبي، قبل أنْ تلسع أمطارُك الهشيمَ العدميَّ اللبنانيَّ كلّه، وبأسره، وبرمّته، وعن بكرة أبيه. 

وأنتَ أيّها القمحُ العسليُّ، يا حنطةَ الأمونيوم، ونيترات الخيانة والترهيب والإرهاب؛ إيّاكَ أنْ تمهِلَنا قليلًا، لنوضّبَ أمتعتَنا المأتميّة، ونرتدي ثياب الاحتفال بالموت العموميّ. إيّاكَ أنْ تصبحَ طحينًا للمعاجن، لأفران الخبز والوجع الشعبيّ. إيّاكَ أنْ تبتسم، أنْ تضحكَ، أنْ تخطر في بالكَ أرغفةُ الفقراء وأقمارُ الصاج المرقوقة على زنود الأمّهات والأرامل والثكالى. إيّاكَ أنْ تصير خبزًا للزيتون، وعروسًا للزيت والصعتر. 

وأنتِ أيّتها الأهراءات، يا أوكارَ الوحشِ المتنامي، وخوابيه، وآبارَه، ولعناته؛ هذه ليست روما، هذه ليست روما، والحريق ليس حريقها، ولا نيرون نيرونها.

اسمعوني جيّدًا: هنا بيروت، هنا بيروت. وهي ليست روما.

والمعنى – فليسمح لنا الشعراء - ليس في قلب الشاعر. والمعنى لن يبقى مكبوتًا ومكتومًا في القلب، وإنْ يكن قلب جميع الشعراء.

أيّها الوحوش الجهنّميون، يا أبناء نيرون، وأحفاده، وسلالته - اللبنانيّة - المقيتة؛ أمعِنوا، أمعِنوا، لكي ينعدم النسيمُ، وينعدمَ الماءُ، وينعدمَ الضوءُ، وتخمدَ الحشرجات.

أيّها الوحوش العلنيّون البشريّون، خذوا وقتكم الكافي. مدّوا أرجلكم. واسترخوا. واستريحوا. ودخِّنوا السيكار، أو النراجيل، أو الأفيون. أو دخِّنوا لهاثَ القمح المحترق، ونياطَ القلوب المشويّة. 

وأنتم يا تجّارَ النار في هيكل لبنان، يا نيروناته، إيّاكم أنْ تخمدوا حريقًا في الهيكل. 

وأنتم يا باعةَ لبنان الكبير، يا يوضاسات الجمهوريّة، إيّاكم أنْ تؤلّفوا حكومةً تفتح بابًا على لقمة، على الأمل، نافذةً على الدستور، وكوّةً في الجدار العدميّ المسدود.

إيّاكم أنْ تعيدوا الأموال إلى أصحابها، والأرزاق إلى أصحابها. 

إيّاكم أنْ تنتخبوا رئيسًا لعهدٍ يكون للبصيرة والتعقّل والعقل. إيّاكم أنْ تبشّروا بالصباح. ولا حتّى أنْ تتّفقوا على وزيرٍ لشركة الكهرباء، للطاقة، للعدل، للحرّيّة، للعدالة، للحقيقة. وإيّاكم أنْ توزّروا وزيرًا لهيكل كاريش، أو لمعبد قانا، أو للخطّ 29، ولا أيضًا للخطّ 23. 

إيّاكم أنْ تفكّروا بمراويل لأطفال الروضات والمدارس، أو بنشيدٍ وطنيٍّ يُعلَّم للصغار، وينشده الكبار والصغار.

مَن قال إنّ ثمّة حاجةً بنا إلى بيروت. أو إلى لبنان. إلى برّه. إلى مينائه والبحر. إلى بقاعه. إلى قميص عثمان الجنوب ومزارع شبعا. إلى بقاعه. إلى شماله. أو إلى أرز الجبل. مَن قال مَن قال؟

أضرموا نيران همجيّاتكم الساديّة في كلّ شيء، في هشيم الحطب العدميّ كلّه. وأضرِموها في المقابر. في البيوت. في البساتين. في الموانئ. في الأرياف. في الحقول المترامية. في السهول. على سطوح الجبال. وفي أفئدة العصافير.

لكنْ، إيّاكم أنْ تفكّروا بأحلامٍ لجنين. أو بهواجسَ لوردة.

لن يكون ثمّة صباحٌ يُشرق من عيونكم الزجاجيّة، بل موتٌ ثمّ موتٌ ثمّ موت.

بيننا وبينكم حقل الجحيم هذا. أمعِنوا ثمّ أمعِنوا ثمّ أمعِنوا. من أجل أن لا يبقى زرعٌ ولا ضرع.

وأنتَ يا نيرون، أيّها النيرونات الظاهرون والباطنون، ويا كلّ نيرونٍ ونيرون؛ أرسِلوا فئرانَكم وأفاعيكم وغربان الليل والدسائس، وافلتوها لا لتصهلَ بل لتنعب وتلعق وتفحّ وتبصق الفحيح الجهنميّ تلو الفحيح، من أجل أنْ يصل السؤدد الأبوكاليبتيّ إلى آخر أهراء، إلى آخر سنبلة قمح، إلى آخر نسمة هواء في لبنان.

افهمونا جيّدًا: لن نستسلم لكم، ولو بعد عام. ولو بعد ألف عامٍ وعام. ولن نحترق بجهنّمكم، ولا بنار أهراءاتكم وحكوماتكم ورئاساتكم. 

هذه ليست روما، وإنْ تجمّعت في أيديكم كلّ أهراءات الفساد والشرّ.

... وإنْ كنتم رمزًا مجسّدًا لكلّ نيرونٍ في الكون.