مَن قال إنّ الشخص العاقل الذي يحاورني الآن وهنا، يريد شيئًا لنفسه؟ هاكم جردةً بالموضوع، وبتفاصيل الحوار: هو (وأنا بالطبع) لا يريد طمسًا لجريمة تفجير مرفأ بيروت، ولا حصّةً في كاريش، ولا في قانا، ولا في سدّ المسيلحة، ولا في البنزين والمازوت والقمح والترابة والكهرباء والدولار، ولا وزارةً في حكومة، ولا مقعدًا نيابيًّا، ولا رئاسةَ جمهوريّة.
جلّ ما يطلبه هذا الشخص، أنْ لا تحترق عطشًا، الحبقةُ في التنكة التي على الشرفة. هو يطالب بشربة ماءٍ للحبقة، ثلاث مرّات في الأسبوع، من أجل أنْ يظلّ بوحُها العطِر يقول مرحبا للشارع، للمارّة، للجيران، وأنْ يظلّ هذا الفوح يقنع الحياة بفكرة الحياة عن نفسها، وبجدواها.
هل كثيرٌ أنْ يطلب كائنٌ ما، شربةَ ماءٍ للحبقة التي على الشرفة؟ أو حبّة قمحٍ (شعير، ماشي الحال) للحمامة التي تحطّ على شرفة الجيران؟
هذا ليس مطلبًا. بل محض تحيّةٍ عطرةٍ تُهدى مجّانًا إلى ما بقي من حياةٍ، ها هنا. محض هديلٍ ليهدل، ليس إلّا.
علمًا، يقول هذا الرجل، أنّ المطالب المشروعة لا حدّ لها. وهي إذا كانت تبدأ بتحطيم الكراسي، وطرد تجّار الهيكل (من هيكل لبنان)، لاستعادة الدولة (ثمّ الدولة، ثمّ الدولة، وبالثلاث)، فإنّها لا تنتهي، ويجب ألّا تنتهي فقط بمشانق تُعلَّق لهم، أكانوا قتلةً أم خونةً أم فاسدين وموبوئين أم متسلّقين وانتهازيّين وسماسرةً أم فقط شهود زور و... متفرّجين.
علمًا أنّ الحياة المغتصَبة، مَن يعيدها إلينا، هذه الحياة المغتصَبة (يسأل الرجل)؟!
ولا حتّى المشانق تعيدها إلينا. بل فقط تعيدها إلينا الدولة.
ثمّة حديقةٌ (منسيّةٌ) هي حديقة ذكرياتنا. وهي الآن على جدول أعمال رؤسائنا وحكّامنا وسماسرتنا ومتعهّدي الأمر فينا، من أجل تخريبها وإطاحتها ومحوها واستئصالها، ولِمَ لا تفجيرها على طريقة تفجير بيروت، ومينائها (الرابع من آب على الباب).
حتّى حديقة الذكريات؟! نعم،y compris حديقة الذكريات، يقول الرجل.
وما حديقة ذكرياتنا، لتقضّهم إلى هذا الحدّ؟! ألأنّها، يا ترى تجعلهم يتسمّرون بعيونهم المبحلقة أمام مرايا سفالاتهم وحقاراتهم ودناءاتهم التي لا سفالة ولا حقارة ولا دناءة تدانيها؟!
وما الذكرياتُ هذه؟ إنّها ذكرياتُ الإنسان المواطن الفرد، ذكرياتُ حرّيّةٍ، ذكرياتُ حلمٍ، ذكرياتُ عاصمةٍ كانت عاصمة، ذكرياتُ كرامةِ عيشٍ فريد، ذكرياتُ اجتماعٍ، ذكرياتُ جامعةٍ وشارعٍ ومقهًى وتفكّرٍ عقليٍّ وثقافيّ، ذكرياتُ جمالٍ أرضيّ، ذكرياتُ قمرٍ ونجومٍ وغيوم، ذكرياتُ جبالٍ وأوديةٍ وأنهرٍ وغاباتٍ وحقول، ذكرياتُ حبٍّ وأدبٍ وفنٍّ وفلسفةٍ ونقدٍ وطموحٍ وجنونٍ مُسالِمٍ عفويٍّ لذيذ، و... ذكرياتُ نفرٍ من ساسةٍ عقلاء حكماء مشتغلين بموازين قيراط الذهب والجواهر النادرة، وعارفين بأصول السياسة المتأدّبة اللائقة.
هل يجب أنْ تموتَ هذه الذكرياتُ فقعًا أو معسًا أو انتحارًا؟! هل يجب أنْ تنتحر هذه الذكريات، أو أنْ تُنحَر، لأنّ مقبرتنا الوجوديّة على أيدي هؤلاء القتلة الخونة المرتزقة الانتهازيّين المتسلّقين الذمّيّين الترهيبيّين الاستكباريّين المتسلبطين السماسرة يجب ألّا تتّسع لمكانٍ شاغر، ولا لفسحةٍ، ولا لقطعةِ أرضٍ مشاع؟!
أيجب (يقول لي هذا الرجل) أنْ يصبح لبنان كلّه، وأنْ نسمح بأن يصبح هذا اللبنان كلّه مقبرةً على أيدي هؤلاء؟!
أهل العقل والتعقّل والحكمة والبصيرة والرؤية – والمعرفة السياسيّة - والشجاعة الأدبيّة والأخلاقيّة، ومعهم النوّاب المعنيّون، فليفعلوا "شيئًا ما"، الآن وهنا. فإذا ليس لسببٍ، فللحبقة التي يقول عطرُها مرحبا للشارع، للمارّة، للجيران، و... للحياة!
... وإذا ليس لسببٍ، فلرئيسٍ يؤتى به عاقلًا حكيمًا متبصّرًا غير ذمّيٍّ بالطبع، غير مرتبطٍ بأحدٍ، وغير تابعٍ لأحدٍ، أو ملتحقٍ بأحد، عارفًا بـ"الكتاب"، بالدولة، وبالسياسة، وبثقافة السياسة المتأدّبة اللائقة، وعارفًا بلبنان!
أمطلبٌ – أم بداهةٌ - أنْ يؤتى برئيسٍ عارفٍ بـ... لبنان؟! وهل بين هؤلاء الأمّيّين المنتهزين الذمّيّين الجاهلين المنبطحين والمتنطّحين إلى الرئاسة، مَن يعرف لبنان؟!
فليُؤتَ فقط برئيسٍ عارفٍ بلبنان.
الكاتب: عقل العويط