‎نحن التواقين الى السلام ، نحتاجه احياءً وامواتاً ، نحن الذين ارهقتنا الاوجاع والصراعات والحروب نحلم بذلك السلام ، سلاماً يعيد الينا الامل والطمأنينة ، هل هذا كثير ؟ هل هو مستحيل ؟ 
‎نعيش في منطقة تفتك الحروب بأوطانها من العراق الي سوريا وفلسطين وليبيا واليمن. والاضطرابات المتكررة تهيمن على إيران ولبنان وتركيا ومصر وتونس وغيرها، مما يهدد الأمن والأمان والسلم والسلام في المنطقة ككل. أما الاضطهادات وانتهاكات حقوق الانسان والظلم والاستبداد والتمييز الديني والعنف فتطغى على كل أنظمتها ،كل هذا باسم المحافظة على تلك الطائفة أو ذاك الدين. حكوماتها وقياداتها وسياسيوها يتباهون بأنهم متدينون وكل منهم يدعي العمل السياسي من اجل المحافظة على نفوذ دينه او طائفته في السلطة أو في الحكم أو في الحقل السياسي.
‎في الواقع ان اهل هذه المنطقة قيادات وشعوباً تؤمن جميعها بإحدى الديانات الابراهيمية السماوية أي اليهودية او المسيحية او الإسلامية بكل ما يشتق عنها، وكل هذه الديانات مع الاختلاف بعقائدها الدينية، مبنية على مفهوم السلام والعمل من أجله. ولكن اي من هذه الحكومات او القيادات او الشخصيات السياسية تعمل فعلاً من أجل السلام؟
 
‎إن لمفهوم السلام في الدين اليهودي حيز كبير . وممارسته واجب على المؤمن لدرجة ان اليهود يسلمون على بعضهم البعض بقول " شالوم" وهي كلمة عبرية تعني السلام والازدهار. بالنسبة الى الدين اليهودي ، إن السلام منهج بين الانسان والله وبين الجماعات والافراد وممارسته واجبة. ولكن أين يتواجد السلام الذي دعا اليه الدين اليهودي في الممارسات الوحشية التي تقوم بها السلطة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين من انتهاكات لحقوقهم وظلم واستبداد؟ او حتى الاستفزازات التي تقوم بها عندما تخرق الأجواء اللبنانية ؟ او ترسل باخرة تنقيب النفط الى الحدود البحرية المتنازع عليها والتي لم يتم الاتفاق بعد بشأنها ؟. فمفهوم السلام عند الإسرائيليين قاعدته الاحتلال والقتل والتهجير ، لا بل بكل وقاحة تمارس السلطات الإسرائيلية العنصرية مدعية المحافظة على الديانة اليهودية.
‎اما الديانة المسيحية فتصف الله بأنه اله السلام " رب السلام نفسه يعطيكم السلام . "(تسالونيكي الثانية 3:16).  وقد ورد في الانجيل بين العهدين القديم والجديد حوالي 150 مرة كلمة "السلام".  وأبرز ما جاء في الانجيل عن السلام بان الله يدعو الانسان لصناعة السلام، وبالتالي العمل من أجل السلام واجب على المسيحي، وذلك واضح كل الوضوح في أكثر من آية منها "طوبى لصانعي السلام، لأنهم أبناء الله يدعون"(متى 5:9) "وثمر البر يزرع في السلام من الذين يفعلون السلام"(يعقوب 3:18) "حد عن الشر، واصنع الخير. أطلب السلامة، واسع وراءها" (المزامير 14:34). والسؤال الأهم: اين انتم أيها السياسيون المسيحيون اللبنانيون من تعاليم الانجيل و صناعة السلام؟ فالبعض شارك في الحرب الاهلية باسم المحافظة على سلامة المسيحيين، والبعض الاخر يمارس سياسة فرق تسد، وفي حال تحالف بعض منكم فتتحالفون على الغاء الاخر، وعندما تتشبثون في السلطة تحتكرونها وكأنها ملك خاص وإرث عائلي، لا بل تتعاطون مع منافسيكم السياسيين على انهم أعداءكم اللدودين كأنكم لستم اخوة لا في الإنسانية ولا في الدين.
‎اما بالنسبة للدين الإسلامي فحدث ولا حرج عن استخدام الدين لمآرب تتعارض تماماً مع مفهوم السلام وهو من اهم الأهداف النبيلة للدين الإسلامي. وهذا الامر ينطبق على كافة الطوائف الإسلامية  فالإسلام يعرف كلمة "السلام" بأنها اسم من أسماء الله الحسنى ويؤكد بأنه لا ينبغي ان يتكلم المسلم مع انسان آخر قبل ان يبدأ بكلمة "سلام" حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم " السلام قبل الكلام" وسبب ذلك ان السلام يعني الأمان ولا كلام الا بعد أمان. ان ممارسات حكومة طالبان البربرية في أفغانستان وأداء تنظيم داعش الوحشي في العراق وسوريا والممارسات القمعية للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تصل الى حد الإعدام لكل ما يعارض النظام، و حرب 7 أيار في شوارع بيروت، كل هذه خير دليل على تجارة بعض المسلمين بالدين الإسلامي.
 
‎للحقيقة ان هذه الأديان لم تمارس بمفهومها الصحيح بل هي اتخذت ذريعة في عالم السياسة والسلطة للتحريض والتفريق وخلق الفتن. فهي استغلت واستخدمت لتنفيذ مشاريع متناقضة و متعارضة تماماً مع أهداف الأديان النبيلة والسامية مما جعل شريحة من الناس تعتبر ان هذه الأديان هي مصدر للفتن. لذا الحل هو النظام العلماني. واسأل هنا: هل المجتمعات الأوروبية العلمانية تعيش في سلام ؟ كلا، وان كان ظاهرها يوحي بذلك ولكن مجتمعاتها مهترئة وتعاني من تفكك العائلات والنسبة العالية للاضطرابات النفسية وعدد الجرائم المرتفع، كما اننا نرى بين حين وأخر اً مظاهرات واعتراضات  واضطرابات . كل هذه المؤشرات دلائل على ان المجتمعات العلمانية بعيدة كل البعد عن العيش بسلام وهي تعاني عدم وجود السلام مثل الأنظمة الطائفية ولكن بأوجه مختلفة ، وذلك ايضاً نتيجة سياسات حكوماتها وسياسييها.  
‎لذا أقول المشكلة لا تكمن في طبيعة النظام ان كان نظاماً طائفياً او علمانياً، فكلاهما نظامين اجتماعيين وجدا بهدف تنظيم الحياة ووضع ضوابط لعيش مشترك لمجموعة من الناس. ولكن المشكلة تتوارى في تحوير هذه الأنظمة واستغلالها لتمرير مشاريع ومؤامرات تخدم القيادات على حساب الشعوب. ففي حال ان هذه القيادات تسمح بتطبيق الأنظمة بمفهومها الصحيح، ستفسح المجال امام التعايش بين افراد الجماعة وتخلق جواً من الهدنة. ومن خلال هذه الهدنة يمكننا ان نخطو اول خطوة باتجاه السلام الحقيقي الثابت والمتين والدائم بمفهومه الواسع، حيث ان مسيرة السلام الحقيقي تبدأ على صعيد الفرد. فالسلام الدائم يتحقق بمصالحة الفرد مع الله ومصالحة الفرد مع نفسه. عندما تتم المصالحة على هذين الصعيدين، يتصالح الفرد مع أخيه الانسان و تنتقل العدوى الإيجابية من مستوى فرد الى جماعة الي مجتمع وربما الى دولة وأمة. والدليل على ما أقوله هو الجماعة المتدينة (ليس المتطرفة) في كافة الأديان تعيش بسلام وفرح رغم كل الظروف الصعبة التي تحيط بها وتكون قدوة للمحبة  والمصالحة و التفاهم، وهذه القيم نحتاجها في مجتمعاتنا لنتصدى لكل مشروع فتنة وتفرقة وتحريض.  
 
‎اذاً السلام هو مشروع يجب ان نبحث عنه، لذا أوجّه كلامي الى معظم السياسيين (و ليس جميعهم حيث التعميم ظلم ولكل قاعدة استثناء وكل طائفة ما زالت تتمتع بشخصيات محترمة) ، أقول بالله عليكم أيها السياسيون، اتركونا و أدياننا، اتركونا وايماننا ، اتركونا و انسانيتنا ومحبتنا وسلامنا.... اتركونا وارحلوا بعيداً مع مشاريعكم الشيطانية وضمائركم المخدرة. ارحلوا وافسحوا في المجال امام مشروع السلام ان ينمو ويكبر. ومن له اذنان سامعتان فليسمع....

الكاتبة رويدا هيكل الخازن