لم أعد أذكر إن كنّا ولدنا أنا وهو وفي جيناتنا هذا الاشمئزاز من أمور تبدو في القرى من المسلّمات الطبيعيّة. فلم تكن دودات القزّ مثلًا تقرفنا، ولكنّنا كنّا نرفض تناول الدجاج لأنّنا رأيناه ينقّب في التراب باحثًا عن الحشرات والدود. ومع إصرارنا على هذا الأمر، بنى والدنا خمًّا أحاطه بسياج، وأوكل إلينا مهمّة تنظيفه، وإطعام الدجاجات فيه. فعدنا إلى أكل البيض والدجاج. ولست واثقة إن كنت تعلّمت منه الكثير من هذه الهواجس المتعلّقة بتطهير اليدين، والتمنّع عن معانقة الناس إن شعرت بأنّهم متعرّقون، لكنّي أذكر جيدًا أنّه كان يؤكّد على رأيه العلميّ في شأن النظافة برأي محمّد عبد الوهاب الذي سمعه مرّة يتحدّث عن هذا الأمر في مقابلة على تلفزيون لبنان. فـسليم مولع بالبرامج التلفزيونيّة وبإذاعة لبنان وبالزجل. فعبر تلفزيون لبنان، تعلّم من عبد الوهاب النظافة، ومن سعيد عقل وضع ربطة العنق والمحرمة التي عرف حين صار التلفزيون ملوّنًا أنّهما حمراوان، ومن الأخوين رحباني الخوف من السفر، ومن نجيب حنكش عبارة "يقبرني ربّك"، ومن رياض شرارة سرد الطرائف عن الحموات. وكان مغرمًا بعيني شارلوت وازن الخوري الخضراوين. أمّا من إذاعة لبنان، فكان ينتظر الأغنيات البلديّة التي كانت تبثّ عند عصر كلّ يوم. غير أنّ للزجل مكانة خاصّة عنده، وبسبب آلة التسجيل والشرائط المسجّلة التي أصرّ على حملها معه حين هربنا من الضيعة، تأخّرنا عن ركوب السيّارة التي أقلّت والدتي المصابة بالروماتيزم والعاجزة عن المشي. فصرت وإيّاه عالقين بين والد عنيد يرفض المغادرة لأنّ أصدقاءه الدروز سيحمونه من الغرباء، ويصرخ بأمّي تحت القصف المتبادل: "روحي يا هبلة، الله لا يردّك إنتِ وولادك المجاديب"، ووالدة توصيني من نافذة السيّارة وعلى مسمع المغادرين أفواجًا مرعوبة ألّا أترك شقيقي يتوه منّي. فوقفت مسمّرة في مكاني، في أعلى الطريق الصاعدة من عين يوسف نحو دير الرهبان الذي كنت أدرس وأعمل فيه، أنظر إلى الموكب الموزّع بين شاحنات عسكريّة وسيّارات مدنيّة قليلة ومشاة من العجزة والأطفال والنساء، يحمل أكثرهم مفاتيح البيوت وما يكفي ليومين من التشرّد قبل العودة. ثمّ أنظر إلى الطريق التي عاد عليها سليم إلى البيت ليأتي بآلة التسجيل التي رفض الرحيل من دونها. وهناك، بين قذيفة وأخرى، وتحت دخان الحرائق وتفجيرات الألغام التي زرعها مقاتلو القوّات اللبنانيّة على التخوم الفاصلة بيننا وبين القرية الدرزيّة المجاورة، وقفتُ أنا سلوى بو مرعي ألعن الجميع، وأدعو على هذه القرية وعلى هذا الجبل بالخراب، وأتمنّى أن يموت سليم فلا أعود مسؤولة عنه، وأن يموت والدي العنيد في البيت القديم الذي كان يرفض تجديده وإضافة حمّام حديث عليه، وأن تموت والدتي على الطريق فلا تصل إلى دير القمر التي كان اسمها في تلك الساعات الرهيبة يتردّد على ألسنة الجميع كأنّها خلاصهم الوحيد؛ وأن أنجو وحدي لأشمت بالمسيحيّين الأغبياء الذي تحركشوا بالدروز ولا يعرفون كيف يوحّدون كلمتهم، وبالدروز الذين خانوا الخبز والملح، وبالفلسطينيّين الذين ظنّوا أنّ الطريق إلى القدس تمرّ في قريتنا، وبالسوريّين والإسرائيليّين الذين يتلاعبون بالجميع. 

 

الكاتبة والادبية ماري القصيفي/ من روايتها للجبل عندنا خمسة فصول