كلّما غاب واحدٌ منهم، سقطتْ شجرةٌ من غابة قلبي. كلّما استيقظ شاعرٌ، كلّما كتب واحدٌ منهم قصيدةً، ارتفعتْ شجرةٌ دفينةٌ في غابة قلبي.
موتًا أموت، موتًا أحيا، كلّما مات شاعرٌ، وكلّما استفاق. فلا أعمقَ، ولا أكثفَ، ولا أضنى، ولا ألذَّ من قلبٍ يصبح هو الغابة، كلّما فاز قلبي بشجرة!
كلُّهُم في الغابة، كلّهم في قلبي، من امرئ القيس إلى شارل بودلير. من الحلّاج إلى تي اس إليوت. ومن دانتي إلى شكسبير، ومن ريلكه إلى آنا أخماتوفا إلى فرناندو بيسّوا إلى هايدغر إلى أنسي الحاج. 
عندما أقول غابة، فإنّي أعني ما أقول. لكنْ ليس أيّ غابة. بل تلك التي لا ابتداء لها ولا انتهاء، فتمتدّ وتتشابك وتلتفّ وتتوالد وتتجدّد وتنمو، على غرار المتاهات الغاباتيّة الأسطوريّة في الأمازون، في فيتنام، في أفريقيا، ولستُ أدري أين أيضًا في أوروبا في روسيا في أوستراليا في أميركا الجنوبيّة. فأيّ إناءٍ يتّسع. وإذا اتّسع، فيا لشقاء الإناء، ويا لمسؤوليّته!
يحضر الموتى الشعراء، جميعهم بلا استثناء، وكلٌّ في موضعه ومرتبته، فلا يضيع واحدٌ منهم، ولا ييبس غصنٌ من أشجار قصائدهم. قلبي يضمّد دماءهم وجروحهم، وقلبي يفرش لهم الأسرّة، وقلبي يُطعِمهم ويسقيهم، وقلبي يسامرهم لئلّا يضجروا، وقلبي يُنزّههم، وهو إيّاه قلبي، يغطّيهم في الزمهرير، لئلّا يُصاب أحدهم والقصيدة بالبرد بالزكام.
ثمّ أقول: الشعراء الأحياء هم أيضًا الغابة الغابة. فما أجمل أعمارهم وأشعارهم في قلبي. أحبّهم كثيرًا لكي يعمّروا كثيرًا، ولكي يبقوا وقصائدهم في منأى من الجفاف من القسوة من القحط والذلّ والمهانة والقتل والإرهاب وغدر الدهر والزمان. الأرغفة لهم، والزيت والزيتون، والصعتر البرّيّ، وما احتاجوا إليه من حبرٍ وكلمات.
أسمّيهم شعراء، من باب تسمية الكلّ باسم الجزء.
هم أيضًا ذووهم والأنسباء: وهم الكتّاب والروائيّون. وأيضًا هم المسرحيّون والراقصون والموسيقيّون والمغنّون والرسّامون والنحّاتون والفنّانون مطلقًا. من إرنست همنغواي إلى كونديرا، ومن بورخيس إلى غارثيا ماركيز إلى أراغون وبابلو نيرودا. ومن فان غوغ إلى بيكاسو إلى ماتيس ومانيه ومونيه والجمركي روسّو وبول غيراغوسيان. ومن جورج شحاده إلى فيروز وماريا كالاس. ومن إيلّا فيتزجيرالد إلى بيلي هوليداي وسارة فوغان ولويس أرمسترونغ ونينا سيمون. ومن تولستوي ودوستويفسكي إلى بول إيلوار. ومن سمفونية بيتهوفن التاسعة إلى تشايكوفسكي وعينَي اندريا بوتشيللي. 
وإنّي أقول للناس للأمم للسلطات الغاشمة محذِّرًا: أيّ عالم يكون العالم إذا خلا من الشعر، من الشعراء، وأيّ حياة!
الغابات، غابات الشعراء تنحسر وتتضاءل وتحترق وتهزل وتمرض وتموت.
... لكنّها لن. لن تنحسر في قلبي. إلّا في قلبي.
أيّها العالم، ويلٌ لكَ إذا لم تفسح للشعر، للشعراء، ولذويهم والأنسباء. فكيف، أيّها العالم، إذا خلوتَ منه ومنهم!
الكاتب والصحافي عقل العويط