(نقلا عن موقع "النهار" الالكتروني: أفاد خفر السواحل التركيّ الثلثاء (14 أيلول 2022) بأنّ ستّة أشخاص بينهم أطفال لقوا حتفهم قبالة سواحل جنوب غرب تركيا، عندما غرق مركب يقلّ مهاجرين أثناء توجّهه إلى إيطاليا، أبحر من لبنان السبت لكنه احتاج لتزوّد الوقود قبالة ساحل جزيرة رودس اليونانية، وفق استجواب مفصّل للمهاجرين الذين أُنقذوا. ونقلًا عن الموقع نفسه: انطلق فجر اليوم (17 أيلول 2022) قارب هجرة غير شرعيّ من أحد شواطئ المنية شمال لبنان متوجّهًا إلى أوروبا. وعُلم أنّ على متن القارب أكثر من 250 شخصًا).
... هؤلاء الذين يغادرون بلادهم خلسةً ومواربةً في البحر خلال الهزيع الأخير من الرمق، أليسوا هم أنفسهم الذين يغادرون تحت شمس الوجع والعتمة والذلّ، ولا يتركون وراءهم سوى مقتلة البلاد ومقتلة الذكريات الشخصيّة؟!
هل كانوا ليغادروا، لو بقيَ عندهم، هنا، مؤونةٌ كافيةٌ من بحبوحة الحلم، من زهرة النوم، ومن كَرَم العشب البرّيّ؟ هل كانوا ليغادروا، لو لم تصبح سقوفُهم سماءً للعدم، ومآقيهم توابيتَهُم، وقلوبُهم مقابرَهُم المفعمةَ بهلع الركام وغطرسة الأحذية؟!
تتّهمون البحرَ بالقتل. إيّاكم أنْ تُحَمِّلوا البحرَ أوزارَ القَتَلَة. البحرُ ليس قاتلًا. البَرُّ هو القاتل.
والبَرُّ – انتبِهوا جيّدًا - ليس الأرضَ. ليس الأرضَ. إنّه البَرُّ الذي يحتلّه الطغاةُ، وسرّاقُ العهود، وفسوقُ الحكّام والسلاطين.
الضائعون في البحر، لو لم يكونوا قتلى البَرّ هذا، وفي الأساس، لو لم يكونوا ولائمَ مُهيَّأةً للذبح على موائد وحوش البَرّ، أكان تَجاسَرَ، أكان اضطرّ بحرٌ – اضطرارًا وغصبًا - أنْ يبتلع جثث أرواحهم البهيّة؟ أكانت الموانئ تركتهم يبحرون ليلًا رفقةَ الثياب الموحشة، كي لا تشعر النجوم، وقمر النجوم، بغياباتهم الممضّة؟!
أليست هذه حكمة الشهداء وفلاسفة القتل الرحيم، عندما يتفادون الوداعات السخيّة، إمعانًا في الكِبَر والكبرياء؟!
بحرُ البلاد الذي لن يحملوه معهم، قد علّموه – يا للأسى - أن يقول لمؤنِسيه إنّ الشاطئ، وكلّ شيءٍ هنا، ليس على ما يُرام، وإنّ الكراسي لن يعود في مقدورها أنْ تغفو، أنْ تستريح، وأنْ تنسى، قبل أنْ تنتبه إلى ما يجري فوق مسرح الخديعة.
هذا ليس صحيحًا. فلا البحرُ هو القاتلُ، ولا البلاد تقتل.
ويقول شاعرٌ، على مضضٍ منه، إنّ مَن كان يجلس ها هنا، لن يعود إلى هنا، بعدما رتّب لأحلامه المخلوعة مقامرةً خاسرةً غيرَ محمودة النتائج. ويقول الشاعرُ إيّاه، ليست النوارس هي التي قادت الهاربين إلى القعر، بل القاتل الذي يحتلّ البَرَّ، يدبّر ممرًّا إجباريًّا للمحتاجين إلى العبور، موهِمًا ما تَفَجَّمَ من أحلامهم باحتمالات النجاح المهيضة.
والشاعرُ إيّاه لا يصدّق – لا يريد أنْ يصدّق - أنّه لم يعد ثمّة في بَرِّ البلاد مَن يؤوي الباحثين عن ليلةٍ واحدةٍ يمضونها داخل الحياة. والشاعرُ إيّاه لا يصدّق - لا يريد أنْ يصدّق - أنّ أسرّةَ هؤلاء لم تعد تتحمّل النوم تحت سماء العدم. ولا النوم عاد يتحمّل بقاء أسرّتهم تحت السقوف الممهورة بالخواء.
يروي الشاعرُ أنّ قتلى البَرّ كانوا، كلّما راحوا يدبّجون نكتةً لتسفيه اليأس، يعثرون على مختبرٍ لتصنيعِ الزهور لليأس الجديد. فكانوا كَمَن يعلّمون الشرفات أنْ تكفّ عن انتظاراتها الغرائبيّة، وعن احتضان ضحكات أحواض الحبق والياسمين. ويروي أنّهم كانوا كلّما أعدّوا العدّةَ خلسةً ومواربةً لركوب الموج، تلقّوا تحذيرًا بأنّ النرد الذي على طاولة الروليت قد فُخِّخ حتمًا، وبأنّ البوصلة ستخون، ولا بدّ، إبرتَها الموعودةَ بالشفافيّة.
الشاعرُ إيّاه لا يصدّق. الشاعر إيّاه لا يريد أنْ يصدّق أنّ بَرَّ البلاد، أنّ الأرضَ تقتل.
البَرُّ ليس الأرضَ. ليس الأرض.
البَرُّ هو المتسلّطون على البَرّ، وهؤلاء قَتَلَةٌ، أمّا الأرضُ فلا.
فالأرضُ كلّما امتُحِنتْ في أمومتها، أرسلتْ إلينا الشعانينَ لتكون ثيابًا للأطفال، والترابَ ليكون حدائقَ للورود، والعشبَ ليكون الأخضرَ للحالمين، والصعترَ ليكونَ الطعامَ للجوعى، والزوفى ليكون دواءً للمصدورين، والظلَّ ليكونَ عزاءً للمألومين.
كيف للأرض أنْ تقتل إذا كانت تؤوي أختي وأمّي وأبي، وتؤوي الجسدَ الباطن، والعقلَ الباطن، مثلما تؤوي الشروشَ والينابيع، ولا بدّ من أنّها ستؤوي العصافيرَ التي قد تتعب من التحليق في هواجس النسيم وأوجاع الخيال.
والذين يُقتَلون هنا في الأرض، سيظلّون يُقتَلون في كلّ وقت، ما دام الحكم لطغاة الأرض، وما دامت ثقافة هؤلاء هي ثقافة التيئيس والقتل.
ليس لشِعرٍ أنْ يرثي قتلى البَرّ هؤلاء، ولا أولئك الذين يُقتَلون في البحر، بل أنْ يكون بوصلتَهم الأمينة، والمنارة، للانتفاض على القتل، وللثأر من القتل.
والشاعرُ لن يصدّق أنّ البحرَ يقتل، وهو لن يصدّق أيضًا أنّ الأرضَ يمكن أنْ تفكّر يومًا في القتل. فالبحرُ حلمٌ، والأرضُ أمٌّ، وكلاهما حبٌّ. والشاعرُ سيظلّ يصدّق أنّ الانتفاضةَ واجبة، وأنّ الثأرَ (الديموقراطيّ) من القتل و... القاتل واجب
عقل العويط كاتب وصحافي لبناني