برنامج " عاطل عن الحرية " الذي يقدمه الاعلامي سمير يوسف على محطة ال MTV " يستحق ان يُخصص له محطة خاصة ذات قدرات وامكانات عالية ، يعتقد البعض ان البرنامج يضيء فقط على الجريمة وماذا فعل المجرمون ! .. الأمر له بعد اجتماعي أبعد بكثير ، انطلاقاً من اغنية المقدمة للبرنامج اعتقد ان فكرة البرنامج سامية للغاية ، كلمات الاغنية جداً ذكية ومؤثرة …( الاغنية بصوت الفنان معين شريف )
" عايش خلف القضبان عاطل عن الحرية ندمان شو ندمان شو عملت ايديي ..غلطة غلطا وما فكرت وياما من ايامي خسرت .. لوما تصرفت بجنون ما كنت بهالعتمه بكون .. كان بيحميني القانون لو فكرت شويي..يمكن في ظروف حواليي حكمت فيي وحكموا عليي عن ربي لما تخليت خسرت الحريه وصفيت … عاطل عن الحرية ."
اللافت في حلقات البرنامج ان يوسف لا نراه باستمرار فقط يخرج علينا عند انتهاء الحلقة ويشير دائماً الى النتيجة المرجوة من هذه الحلقة التي شاهدناها ويقدم تعليقاً هادئاً ذكياً يسمو بالانسانية ، ينظر يوسف الى المرتكبين بعين الرحمة ولا يتجاهل القانون او يلعنه بل يؤكد عليه انما يعطي الاولوية للانسان ومن خلال برنامجه يوجه رسالة الى الجميع نعم الجميع .. لا ترتكبوا الجرائم من أجلكم اولاً قبل ان يكون من اجل الاخرين وان السعي المستمر خلف الحلول والارتكاز للقانون هو الحل الافضل دائماً وكل مشكلة ولها حل .
في كلمات الاغنية هناك جملة أثرت بي كثيراً واعادتني الى مراهقتي حين كنت ارتكب الاخطاء واصنع لها المبررات ، " يمكن في ظروف حواليي حكمت فيي وحكموا عليي " نعم نحن نرتكب الاخطاء نتيجة للظروف ام نلقي اللوم على الظروف ؟ في كلتا الحالتين نحن نخطأ عمداً ، نرتكب الخطايا عمداً ونلقي اللوم على الظروف او الاخرين ونبرر اخطائنا ونعطي لانفسنا الحق في ما ارتكبنا .
لكن الظروف تمنح المرتكب حصانة أحياناً ، حصانة " الرحمة " وهنا اعود بذاكرتي الى عام ٢٠٠٩ ( تقريباً ) عندما كنت حينها رتيباً في قوى الامن الداخلي اذكر انني تلقيت اتصالاً من غرفة العمليات يعطيني الامر فيه بالتوجه الى احد الشوارع في بيروت حيث توجد صيدلية وصاحبها القى القبض على سارق بداخلها ، توجهت مسرعاً الى المكان فرأيت رجلاً في العقد السادس من عمره يجلس على ارضية الصيدلية والدماء تغطي وجهه نتيجة الضرب الذي تعرض له من صاحب الصيدلية وبعض الشبان المتواجدين في المكان ، ابعدت الناس عن الرجل وسألت الصيدلي ماذا حدث ؟ فقال : دخل هذا الرجل الي وطلب مني ثلاثة ادوية وضعتهم له في الكيس واخذهم لكنه لم يدفع .. فطلبت منه الدفع قال ارجوك لا املك المال هل تقرضني الدواء وبعد عدة ايام اعود وادفع لك ؟ اجبته انه لا يمكنني ذلك وطلبت منه تسليمي الدواء لكنه هم بالفرار محاولاً سرقة الدواء فاسرعت خلفه وناديت الشبان ليوقفوا الرجل كونه سارق ..واحتجزته هنا ريثما وصلتم بعد ابلاغنا الشرطة .
ثم توجهت للرجل الجاثم على الارض ودموعه تمتزج مع دمائه على خديه ، امسكت بيده وسالته .. لما حاولت سرقة الادوية والرجل لم يسمح لك بالاستدانة ؟
هنا انفجر باكياً وبقي على حاله لمدة خمسة دقائق تقريباً ولا ينطق بكلمة .. فقط بكاء وحسرة ، اعطيته مياهاً ليشرب ومسحت دموعه ووعدته ان اساعده ان اخبرني حقيقة ما فعله .. نظر الي وقال : اذا بتريد يا وطن اسال الصيدلي ما هي الادوية التي حاولت سرقتها ؟
سالت الصيدلي فجاوبني انها "طساسة" للربو وعلبة دواء للالتهابات ودواء للحرارة .. فنظر الي الرجل وقال : ساخبرك بكل شيء ، انا متزوج ولي اربعة اولاد منهم ابنتي الصغيرة البالغة من العمر ثلاثة عشرة عاماً تعاني من الربو والتهابات صدرية مزمنة نتيجة الحالة المذرية التي نعيشها في بيت اشبه بالزريبة في طابق ارضي واعمل سائق تاكسي مستأجراً احدى السيارات ومنذ مدة اخذ الرجل مني السيارة لان دفتر السوق العمومي خاصتي انتهت مدته ولا املك المال لتجديده وهكذا جلست في المنزل عاطلاً عن العمل مع زوجة لديها السكري ورجلها مبتورة واربعة اولاد وابنتي بحالة صحية سيئة للغاية واصابها الرشح منذ اربعة ايام وارتفعت حرارتها كثيراً اليوم ، حاولت اقتراض المال من جيراني لكن احداً لم يعطيني ، سالت عدة صيدليات والجميع رفض ان استدين الدواء … أسالك يا وطن ماذا كنت ستفعل مكاني من اجل ابنتك ؟ ثم غصت حنجرته واجهش بالبكاء … في هذه اللحظة شعرت بغضب عارم .. نظرت الى الصيدلي وسالته ما ثمن الدواء ؟ فقال : ٩٠ الف ليرة ( حينها ) اخذت محفظتي وسحبت منها المال واعطيته للصيدلي وقلت له هل يرضيك ذلك وتنتهي القضية دون ان نأخذ الرجل الى المركز لاجراء تحقيق وفتح محضر ومخاطبة القضاء الذي قد يأخذ قراراً بتوقيفه بجرم السرقة ؟
رفض الصيدلي الحل واصر على محاسبة الرجل وطلب مني ان اقوم بواجبي كرجل امن واستهزأ مني قائلاً : " كل اللي بيسرقوا عندهم خبريات ما فيك كل ما واحد حكالك حكاية تعربش فوق القانون " ، تجاهلت استفزازه وعدت للطلب منه ان ينظر للرجل برحمة فهو بعمر كبير وظروفه قاسية والضرب الذي تعرض له سيجعلك ملاحقاً انت امام القانون لانه لا يحق لك ضربه وتهشيم وجهه ( محاولة مني فقط للضغط على الصيدلي الذي وافق على اخذ المال وتسليم الدواء للرجل وتركه دون الادعاء عليه ) .
هذه الحادثة تشبه كثيراً حادثة الانسة سالي حافظ والتي اقتحمت المصرف لاستعادة وديعة شقيقتها المصابة بالسرطان ،، ايضاً هي خالفت القانون حتماً .. لكن من قال ان القانون وجد لتمجيد الباطل ؟ القوانين وجدت لخدمة الانسان وتنظيم حياته ، المجرم الذي يرتكب جريمة جشع او جريمة اغتصاب ( بكل الاوجه المتعددة للاغتصاب ) اغتصاب امراة ، ام طفل ، ام حق الغير … ما هي مبرراته ؟ لا شيء ! حتماً سيلقي اللوم على الظروف ، العوامل الاجتماعية ، البيئة ، الحالة النفسية والاهلية العقلية كلها مبررات يفرضها القانون احياناً ، من هنا انطلقت بهذا المقال لأشير على أهمية برنامج عاطل عن الحرية المتعدد الاوجه ان كان من الناحية التوعوية للمجتمع او الانسانية في كيفية التعاطي مع المرتكب او حتى لجهة الحالة النفسية الدافعة للجريمة وفي المقلب الاخر للبرنامج هناك عمل القوى الامنية التي يظهر من خلال البرنامج مدى الجهد المضني الذي يواكب عملهم في التحقيقات لكشف الجرائم ومساندة القضاء في تأدية مهامه .
يستحق الاعلامي سمير يوسف التحية والتقدير على برنامجه الذي يترك اثراً لدى الطرفين " المجرم " و " الضحية " كل من يجلس ويشاهد حلقات البرنامج سينال دروساً مجانية ، قد يكون البرنامج في الكثير من الاحيان اعاد مجرماً الى وعيه وادرك خطورة ما كان ممكن ان يورط نفسه به ، وقد يكون البرنامج حفر الرحمة في قلوب بعض الضحايا لمسامحة من اعتدى او ارتكب بحقهم ذنب ما ، جميل جداً ان نعرف القوانين والاجمل هو تطبيقها وقواعد تطبيق القوانين ترتكز على الردع ، اعادة التأهيل ، العقاب ، في لبنان للاسف ، السلطات السياسية يليها القضائية والامنية تتعاطى مع المرتكب عند الامساك به على انه جائزة ثم يُرمى في السجن وهكذا ينتهي دور الدولة ، لا شيء سيردع المرتكب ولا يوجد مدارس داخل السجون لتعيد تأهيل المرتكب ولا مشاغل مهنية ليتمكن من الانتاج داخل السجن .. ليتحول السجين الى حاقد على المجتمع وعلى الدولة ويخرج من سجنه متعلماً اساليب اضافية في الاجرام ستجعله مواطن حر لحين ارتكاب جريمته التالية .
" عاطل عن الحرية " برنامج يجب ان يستمر بوتيرة ثابتة هادفة تمكنه من انتاج افكار جديدة للتعاطي مع قضايا الضحايا والمرتكبين ، الاعلام هو السلطة الأولى في هذه الايام واعتقد ان سمير يوسف لن يتوانى عن تعزيز دور البرنامج ليقدم دائماً ما هو ايجابي للمجتمع وعلى الدولة اللبنانية مقابلة هذا الاداء الاعلامي الراقي بتنفيذ واجباتها تجاه المجتمع ، حينها لن يجد سمير يوسف جرائم اضافية ليستمر برنامجه .
الكاتب : فراس بو حاطوم