(إلى أنسي)

أتسمّر أمام الشاشة الصغيرة من الثانية عشرة ظهرًا – قُبَيل ذلك بالتأكيد - حتّى إسدال الستارة على المباراة اليوميّة الرابعة في برنامج أيّام المونديال. 
أنضوي في هذا الطقس اليوميّ برضوخٍ مستحَبّ، فلا أبالغ البتّة في ما أنا فيه من انخطاف، بل أفعل ذلك بعفويّةٍ شبه لاواعية، كما يفعل طفلٌ أمام فيلمٍ من أفلام "توم اند جيري". وأكاد أراني لا فرق بيني وبين ذلك الطفل، "عقله"، أولويّاته، حواسّه، انتباهاته، وسائر أحلامه، إلّا فارق العمر. وهذا الفارق، أهو كثيرٌ حقًّا، وفي أيّ معيارٍ، ووفق مَن، ما دمنا مأخوذَين نحن الإثنين بسحر الشاشة، كرتها، غموضها، أبطالها، إيقاعاتها، والتشويق الذي يستولي عليها وينضح منها؟!
لا أعرف كيف أصف حالي في زمن المونديال، ولماذا؟ أهو اللعب الموهوب اللذيذ الجميل، أهي الطفولة الآفلة، أهو العمر الهارب، أم هو ردّ الفعل حيال الرعب المادّيّ الذي يستولي الحياة فيجعلها أرضًا خرابًا، خلوًا من الحلم، من الروح، من البداهة، ومن الشعر؟
حالُ الناس (الجماهير) مع الفوتبول هي حالٌ جماعيّةٌ شديدة التنوّع، وفي الآن نفسه شديدة الانسجام، عابرةٌ للحدود للقارّات للأجناس للأعراق للهوّيّات للشعوب للأمم للدول للأمزجة للأهواء للتناقضات. في هذا المعنى، تستحيل المغامرة المتهوّرة التي تدّعي إنزال "إسقاطاتٍ" جماهيريّة (قطعانيّة؟!) مشتركة، قسريّة، صارمة، تعميميّة، نفسيّة أو إيديولوجيّة، واستخلاص "معايير" ذات "ماركات مسجّلة"، على رغم الجامع الذي يجمع ويوحّد ويجعل عشّاق الكرة كتلًا كثيفةً متراصّة. الأرجح أنه ينبغي، والحال هذه، أخذ كلّ فردٍ على حدة، إذ لا أحد تنطبق عليه مواصفات الجماهير والأفراد، وغرائزها – إلّا قليلًا وقليلًا جدًّا – من منطلق أنّ الفرد لا شبيه له ولا صنو إلّا نفسه. وهذا الفرد الواحد الأحد أيضًا، أي هذا التناغم بين الفرد وذاته، هو موضعُ نقاشٍ وجدالٍ لا ينتهي، لأنّ الإنسان الفرد نقيضُ حاله، وفي كلّ لحظةٍ تقريبًا.
 
 
أحضر المونديال مع حالي – فقط مع حالي – لا شركاء لي سوى صديقي كوبر الجاثم أمامي، بيني وبين الشاشة، متابعًا انتقالات الكرة في أرجاء الملعب من فريقٍ إلى فريق، متدركبةً بين الأرجل أو سابحةً في الفضاء. أنصرف أنا إلى عالمي الداخليّ، فأتفاعل مع اللعب وحدي؛ أصفّق وحدي، أقفز وحدي، أؤنّب وحدي، أسبّ وحديّ، وأغتبط بكياني كلّه وحدي. من جهته، ينصرف كوبر إلى عالمه، موغلًا فيه، مشدوهًا، متحفّزًا، إلى درجة أنّه يهمّ، بين حين وحين، بأنْ "يدخل" الشاشة ليلتقط الكرة التي يستفزّه انتقالها المفاجئ والمشوِّق وغير الخاضع لقانونٍ أو معيار. 
كوبر هو من عشّاق الكرة، بمونديال وبسواه. وكم من مرّةٍ "شدّني" إلى حيث يتقاذف أطفالُ الحيّ الفوتبولَ، مطالبًا بحقّ المشاركة في اللعبة، أسوةً بزملائه الأطفال الآخرين، غير قابلٍ بالبقاء متفرّجًا على دكّة الاحتياط، معبّرًا عن استيائه من هذا الإجحاف اللاحق بمواهبه. ممعنًا (كأنا) – وهذا ضروريٌّ للغاية - في الهزء من "لعبة" السياسة اللبنانيّة، ومن أفرقائها، ومن استحقاقاتها، ولا سيّما الراهنة منها، وفي مقدّمها استحقاق رئاسة الجمهوريّة، بعد شغور المنصب، الذي بات مسخرة المساخر مطلقًا على أيدي النوّاب الأفاضل ممثّلي ضمير الأمّة ووجدانها الجمعيّ.
لم يكن ثمّة في حياتي، طفلًا، من الألعاب سوى لعبة الكرة (ولعبة الكلّة). لا أشعر حيال تلك الطفولة بأيّ عقدة نقص، بأيّ مرارة، بأيّ رغبة في الانتقام، بل على العكس أجدني ممعنًا فيها إمعانًا "خلاصيًّا" بسبب خلوّها من الشوائب والعلل والأعطاب والجروح التي تعتري طفولات الأطفال عمومًا، لألف سببٍ وسبب. وأعتقد شبه جازمٍ أنّ حبّي للكرة إنّما هو في أحد معانيه، عرفانٌ بجميل تلك الطفولة العالية الجبين (والفقيرة) التي لا أتذكّر منها إلّا الحلم والزهد والكِبَر والزهو والشعر والطبيعة والحبّ والكرامة والحرّيّة. 
كان ثمّة في طفولتي الخبزُ والزيتون ورغيف الأهل والإخوة والأخوات والكتاب ولعبة... الكرة. هذا كلّه، لا غنى يوازيه. 
يسعني الآن أنْ أبجّل "الغنى" الذي رافق تلك الطفولة وجعلني لا أنسى بحبوحتها ومذاقها ورفاهها ومتعتها والحلم الذي يترقرق منها، ولا يزال.
الكرة، كرة القدم، هي بعضٌ من ذلك الحلم الغفير غير القابل للنضوب ولا للشفاء. 
ها أنا، في زمن المونديال، أستفيق مبكرًا كما العادة. ركوة القهوة أوّلًا. الاعتناء بكوبر ثانيًا والتعبير عن الصداقة التي تجمع بيننا. إنجاز ما يترتّب عليَّ من مسؤوليّات الكتابة والقراءة والتصحيح، ثالثًا، استعدادًا لدنوّ لحظة المونديال. وعندما تحين تلك اللحظة، "أستقيل" من كلّ شيء، ولا سيّما من هذا العطب الكونيّ الذي يلفّ الشرط البشريّ برمّته، بمآسيه وحروبه (ولا استثناء)، وخصوصًا المأساة التي آلت إليها حياتنا اللبنانيّة على أيدينا وأيدي طبقتنا السياسيّة الموقّرة، و"الحروب" الدائرة رحاها داخل مجلس النوّاب بين ورقةٍ بيضاء وأرواقٍ موازية، فضلًا عن الورقة العظمى، ورقة انعدام أهليّة مَن أخذوا على عواتقهم – أحزابًا وكتلًا وتيّاراتٍ وزعماء وقادة وميليشيات وزبانية ومافيات وعصابات ونوّابًا – انتشال "بلاد الأرز" من قعر قعر جهنّم.
لستُ من أتباع الحياد في كرة القدم عمومًا، ولا في المونديال خصوصًا، وإنْ يكن الحياد إيجابيًّا. يصعب عليَّ أنْ أكون حياديًّا أمام الموهبة، أو العبقريّة، أو اللذّة، أو النشوة، أو الفنّ، أو الذكاء، أو المكر، أو البداهة. لذا أراني منغمسًا في اللعبة، متورّطًا في "حروبها"، واستحقاقاتها، منحازًا حيث أجد سبيلًا إلى الانحياز، وإلى ما أشير إليه من معاييرها، ومفاتيحها، وأسرارها، وفنّانيها وأبطالها. 
وإذا كانت الأصول، أصول اللعبة، قد تغيّرت، وتتغيّر، وتتبدّل، في اتّجاه المكننة الحديثة وما بعد الحديثة، ومعها الخطط، والرؤى، وقواعد التحكيمات، والتدريبات، والتكتيكات، والاستراتيجيّات، وهي عرضةٌ في كلّ لحظةٍ لاستدخال معطياتٍ  طليعيّة، فإنّي الإناء المتلقّي الذي يرحّب بالكيمياء، وبكلّ ماءٍ كرويٍّ زلال، وإنْ كنتُ مشغوفًا (إلى درجة الغرام) بالماء الأوّل، المتفجّر من ينابيع الأرض البرازيليّة، وملاعبها السمحاء. 
أجلس أمام التلفزيون كالتلميذ الشاطر، كالطفل، كالعاشق، كالمراهق، كالمسروق، ويجلس معي صديقي كوبر (مستسلمًا لنومه الحلميّ خلال المباراة الليليّة الأخيرة)، يجمعنا الشغف ذاته، والعزاء ذاته، والفرار ذاته، متمنّيًا لو تكون الحياة كلّها لعبة كرة قدم، مع التشدّد حيال لزوم إشاعة التوازن الخلّاق بين شعريّتها وتكنيكيّتها، و"تحريرها" من التوجّهات العنصريّة والشوفينيّة والعنفيّة القصديّة التي تعتريها، ومن "فضائح الفساد" التي تفوح منها، أيًّا يكن الفائز (المستحقّ) في مبارياتها مطلقًا، وعلى الأخصّ في مونديالها هذا. 
أنسي، الذي أهدي إليه هذا النصّ، تخصّص في بزنس كرة القدم، طوال خمس سنوات أمضاها بين إنكلترا وإسبانيا، لا بدّ من أنّه، حيث "يشارك" عن كثب، و"على الأرض" في المونديال، وأروقته، وكواليسه، سيروي، لي ولكوبر، بعضًا من تفاصيل صناعة "البزنس" في هذه اللعبة، مفاتيح وأسرارًا واختبارات.
 

الكاتب والصحافي عقل العويط