على هامش ما يجري فوق ملاعب كأس العالم في كرة القدم من "حروب"، أحبّ أنْ أعبّر عن كرهي للحروب مطلقًا، كيفما دارت وتقلّبت، مندّدًا بمُشعِليها والمشتعلين بها، وبالمحاربين والمتورّطين والموّرِطين والمستدرِجين والمستدرَجين، محتقرًا إيّاهم، ماقتًا، وهاجيًا، وهلمّ. لا تنقصنا الحروب نحن اللبنانيّين (والعرب) لكي ننخرط في حروبٍ، من نوع حروب الكرة بين جماهير البرازيل وألمانيا والأرجنتين وكرواتيا وانكلترا والبرتغال، أو بين جماهير فرنسا وبلجيكا وتونس والمغرب وأفريقيا وإيران والولايات المتّحدة، وهلمّ. أكانت هذه الحروب تستعر فوق أرضنا الخراب، أو في نواحي المعمورة. أكتب هذا النصّ، تعبيرًا عن حبّي للعبة كرة القدم، وعن رفضي تحويلها إلى لعبة غرائز وعنصريّات.
أحبّ الكرة، أحبّ لعبة الفوتبول، لكنّي لا أحبّ الغرائز الجماهيريّة والفرديّة المرتبطة بها، بل استهولها، وأخاف منها، لأنّها تردّ الكائن (البشريّ؟!) إلى الحيوانيّة، إلى الاحتشاد القطيعيّ، أكان احتشادًا عرقيًّا، أم عنصريًّا، مذهبيًّا، دينيًّا، سياسيًّا، فئويًّا، طبقيًّا، جهويًّا، شرقيًّا، غربيًّا، شماليًّا، جنوبيًّا، أفريقيًّا، عربيًّا، أوروبيًّا، لاتينيًّا، أم سوى ذلك من تحشيدات تشدّ الإنسان إلى القعر، إلى الدرْك الأسفل، إلى البهيميّة النتنة، وتضع الكوكب الأرضي في أتونٍ مضافٍ من "الحروب" الغبيّة و"الذكيّة" التي تولم نيرانها حيثما كان وأينما كان، من أجل حفنةٍ من الصغائر والكيديّات والأضغاث والمطامع والمطامح والأوهام. 
أحبّ الكرة، أحبّ لعبة الفوتبول، لكنّي لا أحبّ هذا "القتل العمد" للأوهام الجميلة. هل يجب أنْ نورّط اللعبة الطيّبة اللذيذة في متاهات الغرائز والضغائن الدفينة والمكبوتة، فنحوّل الطابة من لعبة – أكرّر: لعبة – إلى لعنة، إلى بؤرة، لتأجيج الملاعب ومدرّبيها ومرشديها وجماهيرها الظاهرة والخفيّة، فنستدرجها إلى "ساحات" و"متاريس" بين قلوبٍ متوّرمة، بين شعوبٍ وأممٍ (وأحياء وشوارع ومناطق وضواحٍ) ودولٍ وفقراء وأغنياء ومقيمين ومهاجرين؟ ... وأيضًا بين أديان؟ ومن أجل ماذا؟ أمن أجل أنْ لا يبقى ملجأ "نقيٌّ" واحد يهرع إليه الفارّون من جهنّم التي ها هنا، والآن، وفي كلّ موضعٍ ومكان، والهاربون من رعب المال والسلاح والإرهاب والديكتاتوريّة والجشع والسلطة والربح الدنيء والوحشيّة والتوحّش والهمجيّة والعنف والتنافس على العقود وهلمّ؟ 
أحبّ الكرة، أحبّ لعبة الفوتبول، لكنّ أخشى ما اخشاه أنّ هذه ليست لعبة. أنّها لم تعد لعبة. أخشى أنّها ليست طابة. أنّها لم تعد طابة. وأخشى ما أخشاه أنّ هذا ليس فوتبول الطفولة. أنّه لم يعد ذلك الفوتبول. وأنّه ليس - ولم يعد - امتحانًا كرويًّا بين منتخباتٍ متبارية للتنافس في ما بينها وللفوز بكأسٍ، تكون بمثابة تعزية أو تعويض عن مفتقداتٍ لن يُعثَر عليها بعد الآن على هذا الكوكب المريض.


أحبّ الكرة، أحبّ لعبة الفوتبول. لكنّ الكراهة تأكل البشر. تخرّب قلوبهم، عقولهم، وتجعلها أوكارًا لتحريض الناس بعضهم ضدّ بعض. أيجب، والحال هذه، أنْ تنفلت الغرائز بين العرب والغرب بين المستعمِر والمستعمَر، بين المقيمين الأصليّين والمهاجرين (غير المندمجين) في عواصم (أوروبيّة) وضواحيها، وفي أكثر من مكان؟ أيجب، على مرمى أبصارنا وأيدينا، في "لبنان السيّد الحرّ المستقلّ المقاوم"، أنْ تُسيَّر مواكب درّاجة وسيّارة (مبرمجة)، وأنْ تَستفزّ وتُستفَزّ، وأنْ تبشّر بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأنّ منتخبًا فاز ولأنّ آخر هُزِم؟ 
لقد انهزم العقل انهزامًا تراجيديًّا. وأنهزمت معه الأنسنة، والحكمة، والبصيرة، والفلسفة، والثقافة، والقيمة، والفكرة، والكتاب (ومعرض الكتاب). وأصبح الإنسان – لا الكرة – هو اللعبة التي تتقاذفها الأيدي (والأقدام)، باعتبار هذا الإنسان صار محض دمية، محض أداة، محض "تجارة"، بل محض ممسحة (أو سجّادة حمراء على الكروازيت).
فليخسر مَن يخسر. وليربح مَن يربح. فهذه ليست آخرة الدنيا. أوّل من أمس أُخرِج "كبارٌ" من المنافسة (أيطاليا أزيحت قبل أنْ يزيح أحدٌ أحدًا)، وتمرّغت منتخبات ألمانيا وبلجيكا والبرازيل واسبانيا والبرتغال وانكلترا، وغدًا سيتمّ تمريغ منتخبات أخرى، لكنّ نجمًا واحدًا لن يفلت من مداره في الفلك، ولا القمر، ولا المرّيخ، ولا الشمس، ولا الزهرة، ولن تندثر حتّى الغيمة الهشّة التي لا تثبت على حال.
كلّ شيء في الطبيعة على ما يُرام، إلا على الكوكب الأرضيّ. لأنّ "العقل الصغير" يقيم هنا، ولأنّ الشرّ مرتعه ها هنا، في هذا "العقل الصغير". 
اتركوا اللعبة الجميلة تأخذ مجراها. دعوا الكرة تذهب في الملاعب حيث تشاء، وليصدّها من يعرف أنْ يصدّها، وليعجز عن صدّها مَن يعجز عن صدّها. والحال هذه، تستطيع الجماهير أنْ تهزج وتطبّل وتزمّر وتصرخ وتفرح وتبكي وتدمع وتحزن وتخيب وتتباهى - بل  يجب بل يجب، لأنّ هذا كلّه طبيعيّ-. وليكن ما يكون من أمر اللعبة ونتائجها. إنْ هي سوى لعبة. لعبة فحسب. ثمّ تنتهي اللعبة. لكنْ. لكنْ. ليس مسموحًا للغرائز ولا للعنصريّات ولا للعرقيّات (ولا المذهبيّات والطائفيّات) بأنْ تطلّ من أوكارها. فلتهدأ القطعان قليلًا. بل فلتخرس خرسًا أبديًّا. 
تكفينا آلامنا وأوجاعنا وأتراحنا ومآسينا وهواجسنا وهمومنا وأمراضنا وأهوالنا وفواجعنا. ويكفينا يأسنا وأملنا المضرّج القتيل. وتكفينا بلادنا الممنوعة من أنْ تكون بلادنا، وشعبنا الممنوع من أنْ يصير شعبًا، ودولتنا من أنْ تصبح دولة. يكفينا أنّنا بلا ليرة، بلا ثياب، بلا رئيس، بلا كرامة، وبلا شرف. ألا يكفينا ذلك كلّه، لكي تضاف إلى "ولائمنا" المخزية هذه وليمة تحويل لعبة الفوتبول إلى (معرصة) محلّيّة وعالميّة؟
أحبّ الكرة، أحبّ لعبة الفوتبول، لكنّي لا أحبّ تحويل هذا الحبّ إلى كراهة، إلى حقد، إلى ضغينة، وإلى قتل.
أعرف جيّدًا أنّ هذه اللعبة ليست منزّهة، وأنّ "العيب" ينخرها من الداخل، من شجرة "الفيفا". لكنْ، فلنتسلّ قليلًا بما بقي في الكرة، في الفوتبول، في اللعبة، من "وهم". فلنلعب قليلًا، ما دامت اللعبة قائمة. فلنشارك في المنافسة، في الأفراح والأتراح، من بيوتنا، من أمام الشاشات، على المدرّجات، ومن حيث نحن، بطرائقنا المنفعلة الطفوليّة الساذجة الطيّبة اللذيذة. ولنهرب قليلًا قليلًا في هذا الوهم القليل الباقي. فبعد قليل سينتهي الوهم، وسنعود إلى أيّامنا التافهة، إلى حكومتنا التافهة، إلى مجلسنا التافه، وإلى معارك رئاستنا التافهة والشنيعة. وسننصرف إلى عدّ الليرات التي لا تشتري لنا رغيف خبز، ولا حنجور دواء، ولا حذاء للطفل الصغير، للسنة الجديدة التي ستولد مريضةً هي الأخرى بعد قليل.
أحبّ الكرة أحبّ لعبة الفوتبول. وليربح فيها مَن يربح وليخسر مَن يخسر. 
أحبّ غريزة اللعبة، لكنّي لا أحبّ لعبة الغرائز والعنصريات لا. لا، وألف لا.


الكاتب والصحافي عقل العويط