انتهت أمس مباريات المونديال الثاني والعشرين في كرة القدم، بفوز مَن فاز، وبهزيمة مَن هُزِم. صُرِفَت أموالٌ كثيرة (بمئات المليارات حتمًا)، وعُقِدتْ آمالٌ وأحلامٌ فوق المعقول، ونُسِجتْ أوهامٌ خارقةٌ بل مستحيلة، انتهت جميعها إلى ما انتهت عليه، بالسلب والإيجاب. اليوم، يبدأ نهارُ جديدٌ، ولا بدّ من أنْ تتواصل اللُّعب والألاعيب الأخرى، وأنْ تُخترَع لُعَبٌ وألاعيب جديدة، لإلهاء الناس عن الفظائع التي تُرتَكب على أيدي "ألعبانات" السياسة والمال والحرب والسلم والسلاح والفساد والإرهاب والسرقة والقتل، هنا وفي العالم.
قلت لكم إنّ المونديال لعبة، محض لعبة، وإنْ أحيانًا قذرة. لأنّها تُلعَب أيضًا تحت الطاولة، وفي الكواليس. لكنّها لعبةٌ مخدِّرة لذيذة، ونحن نحبّها، ونُغرَم بها، ويأخذنا وهمُها الانتشائيّ إلى مطارح تشبه السعادة. غير أنّها – لا سيّما - ككلّ لعبة، لا بدّ لها من أنْ تعي ذاتها أنّها لعبة، وأنّ لها نهاية، وإنْ غير متوقّعة وغير محبوبة وغير مستحبّة أحيانًا. وكم قلتُ لكم حذار أنْ تُعامَل باعتبارها أكثر من لعبة. وكم نبّهتُ كلّ مَن يفعل ذلك (وأنا واحدٌ من هؤلاء)، لا بدّ من أنْ يُمنى بمفاجآتٍ غير محسوبة، وفي الكثير من الأحيان، موجعة. خذوها دائمًا باعتبارها لعبة، لئلّا يصاب المرء بالخيبة. وأيّ خيبة، وخصوصًا إذا كانت شبيهةً بخيبة نيمار، أو بخيبة ميسي، أو رونالدو، أو مبابي (وشعوب هؤلاء وعشّاقهم). فهناك يكون البكاء وصريف الأسنان. وهلمّ.
أمس، كان الثامن عشر من كانون الأوّل 2022. اليوم هو التاسع عشر منه. أمس كان المونديال لعبة، أمّا اليوم فانتهت اللعبة، وأسدل الستار على ملاعبها، ورجع كلٌّ إلى دياره، هذا خالي الوفاض، وذاك حاملًا الكأس، أو ما ينوب عنها، ويرمز إليها، من جوائز ترضية مادّيّة ومعنويّة وسواها. لكن لا شيء يشبه الخسارة. كما لا شيء يشبه الربح. المهمّ أنْ يعرف المرء كيف يتعامل مع الربح، كيف يتعامل مع الخسارة، لئلّا – من شدّة التوهّم – يروبص في نومه، فيقع من تخته، فيكسر ضلوعه أو وركيه، إذا كان السرير عاليًا. وقد تقع الضربة على رأسه فيغيب عن الوعي، ويدخل في كوما. وهيهات الرجوع منها. هيهات. وإذا عاد أحدهم من الكوما، رجع مختلًّا، أو "مضروبًا" أو "مش ولا بدّ"، وهلمّ.
المنطقيّ أن نقول إنّ المونديال انتهى، وإنّ لعبته انتهت، وكذا التوقّعات والرهانات والمضاربات. المنطقيّ أيضًا أنْ نتعامل مع المسألة باعتبارها لعبة عن حقّ وحقيق، وبعقلانيّة وواقعيّة، لا على طريقة الثيران الهائجة. وما أكثرها هذه الثيران، عندنا وفي بلدان المعمورة.

المونديال لعبة، لكنّ رئاسة الجمهوريّة ليست لعبة، ولا جلسات انتخاب الرئيس هي لعبة. غير أنّ أهل السياسة (في لبنان طبعًا)، ومعهم العامّة، يتعاملون مع هذا الاستحقاق باعتباره أقلّ من لعبة. وأرخص. وأدنى. وأحقر. دليلي إلى ذلك، أنّ الأمور ماشية، والجلسات ماشية، والبلاد ماشية (إلى ما تحت جهنّم طبعًا)، والفقر ماشٍ، والجوع مثله، والذلّ لا سيّما وخصوصًا، ومع هؤلاء الليرة نزولًا متدحرجًا من عل. وإذا كانت كرة القدم تُتَقَاذف بالأقدام، فإنّ شغور الرئاسة (عندنا طبعًا) يُتَقَاذَف بـ"المُخلَّفات" المقيتة والمنتنة والمقزِّزة بين الأطراف السياسيّين، والقوى، والأحزاب، والسادة النوّاب، رئيسًا وكتلًا وأعضاء. أما رأيتم، يا أصدقائي، جلسات "سيّد نفسه"، وحصيلة تلك الجلسات التي أصبحت عشرًا (والله أعلم)، والحبل على الجرّار. ومَن يدري، فقد يُرتأى – والمجلس، أي مجلس النوّاب، هو سيّد نفسه – التخلّي عن عقد الجلسات، وإيجاد فتوى (دستوريّة بالطبع) تبرّر ذلك التخلّي، والاكتفاء بمعطيات الأمر الواقع، وتسيير الأمور كيفما كان، و"قبّ الباط" (الإبط) عن لامركزيّاتٍ إداريّة، وربّما سياسيّة وقانونيّة ودستوريّة (موسّعة للغاية) تشبه الحكم الذاتيّ، وتضارع مفهوم الدويلات داخل الدولة (أليس عندنا مثالٌ رائعٌ وميمونٌ على معيار الدويلة داخل الدولة؟)، فيُضرَب صفحًا لا عن انتخاب الرئيس فحسب بل عن الدولة برمّتها، وبمؤسساتها، وقوانينها المرعيّة، ودستورها، فيُتلاعَب – لِم لا؟! - بحدودها وسيادتها واستقلالها وكينونتها ووجودها ومصيرها وهلمّ.
علمًا أنّ "لعبة" انتخاب الرئيس قد لا يكون لها أجلٌ معلومٌ أو مسمّى، فإذا كان لها بداية (في الدستور) فليس لها نهاية (في الدستور). والحال هذه، هي "لعبة" لا يعكّر صفوها "تاريخ انتهاء صلاحيّة"، ولا رابحٌ أو خاسرٌ، فالكلّ راضٍ، بدليل أنّ الأمور ماشية، أو "سارحة" (القطعان)  "والربّ راعيها". 
وما دام الأمر يُحتمَل أنْ يتّخذ هذا المسرى، ففي مقدور الجميع أنْ "يتفاعل" بأريحيّة مع المعطيات أعلاه، التي تُسمّى المستجدّات في علوم السياسة (وما أدراك ما هي السياسة وما هي علوم السياسة)، وذلك طبعًا بما يتلاءم ومصالحه وحساباته، فضلًا عن مطامحه والمطامع.

المونديال لعبة، محض لعبة فحسب. لكن اغتيال جبران تويني ليس لعبة. علمًا أنّه يُتعامَل (رسميًّا وقانونيًّا وقضائيًّا) مع جريمة اغتياله باعتبارها لعبة. وأيّ لعبة. أستذكر جبران تويني، لأنّ يوم أمس أقيم قدّاس في ذكرى قتله الهمجيّة السابعة عشرة. يمكن، والحال هذه، استحضار كلّ جرائم القتل والاغتيال الفظيعة التي "لُعِبَت" فينا، والتي - إذا فُتِحت ملفّاتها وُجدتْ خاليةً من أيّ بصيصٍ أو خيطٍ يقود إلى حقيقة أو وهم حقيقة - أُريد منها نزع النخاع الشوكيّ لهذه البلاد لجعلها بلا نخاع ولا شوكة.

قلت لكم إنّ المونديال لعبة، ووهم. اليوم انتهت اللعبة، وانتهى الوهم. لم يبقَ أمامنا سوى الانصراف إلى معاينة اللُّعَب والألاعيب الأخرى، إمّا مكتوفي الأيدي حيالها، أو... منتفضين عليها وعلى اللاعبين فيها. والسلام. 

الكاتب والصحافي عقل العويط