أيّ انتهازيٍّ أيُّ ماكرٍ لئيم قال لي إنّكِ تنوئين بأحمالكِ أيّتها المدينةُ أيّتها البلادُ أيّها القلبُ أيّها العمرُ أيّتها السنةُ النكراء؟ أأنتِ تنوئين حقًّا ولا تنبسين؟! إنّ عويلي منيعٌ وأبكم، وعلى طريقة صمتكِ لا يسمعه الله ولا توقّره النبوءات ولا أسفار الأنبياء ولا أديار الزهّاد الشمامسة ولا حاملو كتب النايات والأبواق.
وإذا قلتُ لا تستهويكِ الشموس العاهرات ولا النجوم السافلات ولا خرافات الكواكب الصمّاء، فلأنّكِ لا تنصتين إلى مسيحٍ دجّال ولا إلى إلهٍ يضلّ الطريق .
وأنا أغار منكِ لأنّكِ تتحمّلين. وأحسدكِ حسدًا نقيًّا كما يحسد فقيرٌ فقيرًا آخر لأنّه يحظى برمق. وإذا كنت لا أعثر على ضوءٍ فليس لأنّي أسأل كيف تعثرين على طريقكِ وسط الخرائب، بل لأنّك تمهلينني وتفترضين أنّي سأتمكّن من سداد ديوني الباهظة وما تكاثر من الأكاذيب ونكث العهود.
وأسألكِ أيتّها المدينةُ أيّتها البلادُ أيّتها السنةُ ويا شجرة، كيف لشجرةٍ عاريةٍ أنْ تحمي نفسها تحت يدٍ ماحقة. كيف لوجعٍ أنْ يسكت وهو لا يلتئم لا يندمل بل يمعن ويذرف.
يذهب النيام إلى نومهم بينما تذهبين أنتِ إلى يقظتكِ الشاهدة الشهيدة. لا يسعدكِ شيءٌ لا يعزّيكِ شيءٌ لا يحييكِ شيء. كمثلِ ميتٍ ليس موعودًا بقبرٍ، ولا بقيامةٍ، ولا حتّى بمطهرٍ للعبور.
وأسأل معجبًا يا لكِ أيّتها الحرونُ أيّتها البلادُ الحرون: من أين لكِ أنْ تنوعدي بقيامة وأنتِ كسيحةٌ طريحةُ الآفةِ كمثلِ الآفة التي تنخر هيكلكِ الرؤوم.
وأسألكِ هل يرأف بكِ المطرُ إذا لم يغرْ في الأرض؟ هل يشطف هذا المطرُ الخسيس نفاياتكِ المتراكمة؟ والبروق والرعود هل تنوصل بشرايينكِ المنطفئة؟
وإذ تتساقطين كدموعٍ من شجرة من دون أنْ تسقطي في الحفرة النهائيّة، أسأل مجرمًا: قلْ لي هل عاينتَ هل تعاين دموعًا لشجرة؟! هل تدرك ما تفترضه أختٌ ما تفترضه شجرةٌ أو بلادٌ كلّما هممتَ كلّما همّ جلّادٌ بفأسه على عنقها؟
وأسألكَ يا مَن لا يعتريكَ ندمٌ ولا تبكيت، هل بقيَ مَن يستطيع أنْ يجمع أنفاسًا مبعثرة في إناء؟ قلْ لي فليقلْ لي أحدكم ماذا في مقدور شجرةٍ عاريةٍ أنْ تفعل في الزمهرير سوى أنْ تكون وليمةً للزمهرير؟
فليرتفع صوتٌ فيكم يا الناس على سبيل الاحتجاج استنكارًا لمقتل بلادٍ، لمقتل شجرةٍ، لمقتل غصنٍ على شجرة. وآنذاك، هذه الثمار، فليقلْ لي أحدكم أين ستنام هذه الثمار أين ستحلم إذا طأطأتْ شجرةٌ من فرط أوجاعها الليليّة؟
إنّي هالكٌ لا محالة. كلوحةٍ معلّقةٍ على جدارٍ تستحي أنْ تنزل عن الجدار لئلّا يبقى الجدار وحيدًا.
إنّي هالكٌ كموسيقى تنبعث من آلة تسجيل. كموسيقى تختنق بنوطاتها كلّما آثرتْ أنْ تشهر صمتها.
إنّي هالكٌ هالكٌ هالكٌ.
إلّا إذا كان لكاتبٍ أنْ يكتب حين كتابته نوره الوحيد إلى ضوء الأمل إلى ضوء النهار، وقمره النازف في عتمة الليل من أجل أن ينقضي الليل.
*
أوه. ماذا يفعل الفقراء أو الموتى في مثل هذه الأوقات، في مثل هذه الظروف، في مثل هذه الأيّام؟
هل يجتمعون في بيت أحدهم؟ وأيّ بيت؟! هل يتحلّقون حول النار؟ هل يشوون البلّوط البرّيّ؟ البطاطا؟ هل يحتسون ماء السماء ماء نبتة الخبّيزة بعد غليها؟ ثمّ هل يحطّبون الحطب ومن أين يأتون به، من أين يأتون بهذا الحطب للتدفئة؟
ومدّخراتهم، أين، يا ترى، يخبّئون مدّخراتهم؟ أم، تراهم، جعلوها في البنوك، على غرار ما فعل السذّج النبهاء؟ أم، تراهم، تمكّنوا، بقدرة قادر، من تهريبها بالطرق المعروفة إلى البنوك الممهورة بالخلس؟
لستُ سيّئ النيّة إلى هذا الحدّ، لكنّ الفقراء لكنّ الموتى، الآن، إذا أرادوا شراء ثيابٍ للشتاء، والتبضّع بحبوبٍ للمؤونة، وبطحينٍ للعجين، بأيّ عملةٍ يتعاملون؟ أبالليرة الموقّرة؟ أم يصرّفون الدولارات المرسلة من الخارج في السوق السوداء، وبأيّ سعر؟ أبسعر صيرفة؟ أم بالسعر الرسميّ؟ أم والله أعلم.
من فرط ما صرتُ أكره المرتزقة السرّاق الزعران الأحياء، ما عدتُ أفكّر إلّا بالفقراء وهم الموتى. ما عدتُ أطمئنّ إلى سوى الموتى. وهذا – منعًا للغلط أو الشطط - لولا البقيّة الباقية من الأهل، من الأصدقاء، من الأوادم، الذين أصطلي وإيّاهم وحدي بنار الجوهر والصمت الأصمّ.
وحدي؟!
أعذرني يا كوبر، يا صديقي، لأنّي قلتُ وحدي.
ها أنا أتقمّصكَ، وأتماهى بكَ، وأتنازل عن شخصي ليصير شخصكَ الكريم. أرضيتَ الآن؟ وحدي، نعم وحدي. ما دمتَ أنتَ مضيفي، وأنا ظلّكَ، في هذه الحياة الدنيا.
الفقراء الموتى. نعم الموتى. أجمل ما في هذه الحياة هم الموتى. يا لَديرتهم. ويا لَلجيرة العذبة. لطفهم أوفى من ورق الزيتون. ونسيمهم أرقّ. ينامون لئلّا تزعج يقظتُهم صيرورةَ الليل نهارًا، والنبع نهرًا. هم، يا لَكياستهم، يمتنعون عن الحكي، عن الكلام، عن الحوار، في ما بينهم، لئلّا يخدشوا شعرًا مكتوبًا، شعرًا قد يُكتَب في أحد الأيّام. ولئلّا يربكوا عبور الشعر بين الكلمات.
أأسمّيهم موتى أم أشجارًا أم غيومًا أم يقظةً قصوى؟ ينعتني بعضهم بالجنون. ما ألذّ أنْ يكون المرء مجنونًا، أو شجرة سروٍ تومئ إلى عصفور في لحظة تهلكة.
لو تعلمون ما ألذّ جيرتي. أصدقائي كوبر وهذه الرسوم هؤلاء الكتب وثياب الموتى.
مهلًا. مهلًا.
لا تلوموا كوبر لأنّه يهبهب كلّما مرّتْ بذاكرته رائحةُ السرّاق والبلطجيّة. هو يبكي لأنّه يعاين كلّ يومٍ تفجير بيروت تفجير الحياة وانكسار المبنى المجاور. وإيّاكم أنْ تستنكروا أنّ شجرة حورٍ تكتم ألمها فلا تكشف ألم عريها في الشتاء في الزمهرير.
وأقول لكم: احترامًا للثعالب، لا توقدوا نارًا لئلّا يتوهّم الثعالب أنّ ثمّة مَن يحضّر وليمةً هذا المساء.
الجوع أهون من الجريمة من التخمة. الدموع في العين أكرم من أنْ تظلّ العين مبلّطة يابسة نكراء كعينٍ من زجاج.
*
لقد هشل الله لقد هشل المسيح المسيح، وسيظلّ يهشل يقول لي الفقراء يقول الموتى. لقد فرّ قبل أنْ يولد. وأمّه هشلتْ. ولم يبقَ نجمٌ في السماء ليشهد.
*
لم يبقَ من السنة من العمر من العذاب من الذلّ أكثر ممّا مضى أكثر ممّا سيمضي يا لبنان.
العمر هذا، كم يشبهكَ، كم يشبه بيروتكَ، كم يتشبّه بجدارٍ يتداعى. كلّما أجهش حجرٌ في هذا الجدار نمتْ عند دموعه عشبةٌ تترفّق بمحنة العمر بمحنة الجدار.
أعرفُ، تؤلمكِ ذكرياتكِ أيّتها السنةُ يؤلمكِ العمرُ الذي يشبه بيروتكِ التي تشبه لبنان الذي يشبه الجدار الباكي.
ألم أقلْ لكِ منذ البداية منذ السنة الماضية منذ السنة التي قبلها ومذ تلك التي سبقتْ، إنّ العمر لا شيء إذا قيس بالأمل، بموسيقى، بنظرةٍ خارقة، بقصيدة.
وكنتُ دائمًا أخاطبكِ على طريقة التائهين في أزقّة السماء في دروب الأرض المعمورة لأجنّبكِ لا الأخطار بل فجأةَ التشبّه بالعصافير الهرمة بالينابيع بالدموع لأنّها حرّة كمثلِ العشّاق الذين يشتعلون كمثلِ الأفكار التي تتألّم لأنّها تشعر وتفكّر وتأبى أنْ تنام.
وكنتِ تقولين لي إنّكَ حزينٌ إنّكَ معطوبٌ بالولادة بالشعر بالأمل أيّها الرجل أيّها الشاعر لأنّكَ على الأرض على أرض لبنان ولا علاج لذلك، على قولة الفيلسوف، وإنّكَ لن تعثر على مخدّةٍ على مرقد عنزةٍ ولا على نجمٍ يدلّ ولا على قمرٍ لأرجوحة.
وكنتُ أيّتها السنةُ هذه، وأنتِ أيّتها السنةُ تلك، وهاتيك التي قبلها، كنتُ محصّنًا بالأمل كمثلِ بيروت كمثلِ لبنان كمثلِ الذين كمثل اللواتي ماتوا ويموتون كلّ يوم وسيظلّون يموتون ولا يعتري الأملَ فيهم هوانٌ أو نقصان.
ولا أزال عند رأيي لا أزال أقول ما أجملكم وما أعظم أوجاعكم لأنّكم محكومون بقوّة العقل وبمذاقات الجروح التي لا تلتئم على زغل.
وأنتِ أيّتها المدينةُ أيّتها البلادُ سأظلّ أغار منكِ، هذه السنة وكلّ سنة، هذا العمر وكلّ عمر، لأنّكِ تتحمّلين. وسأظلّ أحسدكِ حسدًا نقيًّا، وأرنو إليكِ، كما يتطلّع شاعرٌ هرِمٌ إلى بزوغ شاعرٍ آخر لعلّه يحظى بأملٍ فلا ينوء تحت أوّل ثقلٍ ولا يسكر بأوّل رمق.
الكاتب والصحافي عقل العويط