كانت لذّتي العميقة أن أرى إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو المعروف بـ بيليه في الملعب. ويلعب. كان يكفيني أنْ أراه. وكم كان يكفيني أنْ يكون حظوتي، وأنْ يكون لي، لعينيَّ، لقلبي، وأنْ يسرق قلبي، ونظراتي، ومشاعري، وانفعالاتي، وأحلامي، وأنْ يتلاعب بها، ويستبدّ، حين كان يأخذها كرًّا وفرًّا، يمنةً ويسرةً، إحجامًا وإقدامًا. أو حين كان يقف متربّصًا، موحيًا – والله أعلم - أنّه يهمّ أو يخطّط أو يستريح أو يتكاسل. 
كان إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو المعروف بـ بيليه فائقًا كسحر. فائقًا كسحرٍ يسحر، وكسحرٍ يخلب، ويذهل، ويتفوّق، ويربح الملعب، والطابة، والمرمى، والشباك، وسائر المواطنين والرعاة والرعيان. آمين.
ليس صحيحًا أنّي لم أكن أرى فيه إلّا قدمَيه؛ أي وهمَ قدمَيه، أعني. لكنّ قدمَيه كانتا في الغالب تضيّعانني، وكانتا تضيعان منّي، فلا أعرف أين تذهبان ولا أين تستقرّان. وأُخطئ خطأً جسيمًا إذا ظللتُ أتحدّث عن قدميه. ففي الغالب الأعمّ، كنت أروح أدوخ معه، بل أسكر بل أنتشي، فلا أعود قادرًا على ملاحقة قدمَيه هاتين، ولا حركاته تلك، ولا رقصاته، ولا قفزاته، ولا تمايلاته، ولا انحناءاته، ولا تأوّهات عضلاته، ولا رفرفات روحه في الملعب، ولا تموّجات مناوراته، ولا مرونات ساقَيه، ولا لهاثات وجهه، ولا دموع عَرَقه المترقرقة من جلدة رأسه من بشرة وجهه السمراء من مآقيه، وتترقرق على ذقنه على عنقه على صدره، وتحت إبطيه، وعلى أسفل ظهره. ولا أعود قادرًا على ملاحقة ما يمكن أنْ أُطلِقُ عليه تسمية "الأكاذيب البيضاء"، وهي الحركات والموسيقات والإيقاعات والمراوغات الطربيّة اللّامتوقّعة، لاتّصالها العضويّ بوشائج من تملّصاته البدنيّة، ومروناته الجمّة، وطواعيّات إرهافاته، وتسرّباته، وتسريباته، وتسلّلاته غير الخاضعة لصفّارةٍ وعقوبة.
وكنتُ مشغوفًا بعينيه. مشغولًا ومنشغلًا بهما. فقد كانتا تقودانني كمثل بوصلةٍ في المتاهة. وكانتا ذكيّتَين للغاية. ولستُ أدري لماذا كانتا – شُبِّه لي - حزينتَين ومبتهجتَين في الآن نفسه. إلى الآن، لا أدري كيف لعينَين أنْ تكونا حزينتَين ومبتهجتَين- معًا وفي آنٍ واحد؟ إنّما هذا المزيج كان يسبر الغور، ويلطّف المغزى حينًا، ويعقّده في أحيان، فلا يُدرى أهو حزنٌ ناجمٌ عن التوق غير المكتفي، أم هو ابتهاجٌ خفِرٌ بما يسرّ القلب من دون أنْ يجرح مشاعر الالتهاب الخائبة عند الآخر. وكما كانت عيناه تنوبان عن جسمه، عن جسمه كلّه، بخلاف ما يُقال عن لاعب الكرة إنّ قدميه هما كلّ شيءٍ فيه. وهما اختصاره، وهما مغزاه، وهما سرّه، وهما الفوز والهزيمة. وهلمّ.
قدماه كانتا ذريعة عينيه. ذريعة روحه الجمّة. ذريعة الطابة. ولا أعرف التتمّة.


وإذ أعود إلى عينيه، الآن، كم أكتشف الآن أنّهما عينان هاربتان زائغتان سائبتان غير مستقرّتين – لشدّة اليقظة والتنبّه - على حال. ومبلّلتان. آه. نسيتُ كم كانتا مبلّلتين، وكم هما الآن في عينيَّ كسمكتَين في بحرٍ لا يُدرى من بواطنه إلّا ما يتكشّف للمستكشف، وهو قليل القليل.
وكان إدسون جميلًا كغيمة. كغيمةٍ تنهمر. أو كغيمةٍ تركض لتذوب. لتتبدّد. أو لتفوز. سيّان.
وكان إدسون بهيًّا كضحكةٍ بيضاء على سمراء. كضحكةٍ سمراء على بيضاء، وتضحك في وضوح الرؤية كما في اسمرار الليل المدلهمّ فلا ينقشع اللغز بل يتلبّك، ويكتنز دسامةً وابتهالًا. أترى، كان اللغز لا ينقشع لا يتوضّح أم كان يزداد بياضًا، حين البياض كلّه إمعانٌ في الغموض في التهرّب من  التفسير، لئلّا يفضي التفسير إلى الأقلّ الأقل، فينتاب المرتجي شيءٌ من قلّة الحيلة أو من ابتئاس الظنّ. وتصفّق القلوب الولهى، في الأحوال كلّها، وترتجّ أقفاصها، وتأمل عصافيرها أنْ تطير أنْ تطير، ثمّ تأمل أنْ تعثر على غصنٍ، على سلكٍ، على غيمةٍ، من أجل أنْ يهدأ روعها الذي لن يهدأ إلّا حين تهلع شباك المرمى، وترتجّ ارتجاجًا من فرط الفوز الذي لا شبيه له إلّا تشبّهه بنفسه السابحة في ذكاء الملعب في ذكاء اللعبة. وهو فوزٌ ليس له شقيقٌ سواه. لكأنّه شقيقُ ذاته إيّاها، وتوأمها، وظلّها، وقرينها، ونرجسها، والمرآة.
آه. المرآة. مرآة النرجس.
إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو، أجمل ما فيه أنّه كان سابقًا. ويا ترى، ألا يجدر بي أنْ أسمّيه السابق؟! فهو السابق لا محالة. والسبّاق. أيّام كان الفوتبول في الخمسينات والستّينات والسبعينات والثمانيات من القرن الفائت (...) لعبةً هنيّة بريئة حالمة (رومنطيقيّة؟ ولِمَ لا!)، ولكن حيث لا رعونة ماحقة. ولا عنف رذيلًا شرّيرًا. ولا افتعال. ولا ادّعاء. ولا تشاوف. ولا التباهي بالربح بالموهبة، وإنْ أصبح الربح تحت قدميه (أقصد إدسون) كالخاتم في الخنصر في البنصر، وإنْ راحت تنوء الموهبة بأحمالها فتنضح وترشّ الزغاريد والأفاويه وتزدهر فتبوح وتتعرّى فتكون مزيّنةً بالألقاب بالنياشين بالكؤوس، وعلى سجيّة الازهرار واللمعان، ملْك الجمهور وملء يقينه وعلى مدى أحلامه.
منذ منتصف الخمسينات نزل الفتى المراهق إدسون إلى الملاعب. لم يكن عُرف آنذاك بالاسم "المعجزة" (من تفاسير لقبه - بيليه - وتأويلاته). فقد كان ابن الخمسة عشر ربيعًا (الستّة عشر تقريبًا) ابن أبيه فحسب، وابن عائلته، وابن أحيائه الفقيرة المتواضعة. لكنه ابتداء من تلك اللحظة، من ذلك المفترق، ارتقاءً إلى العام 1977 تاريخ اعتزاله (الرسميّ على الأرجح) اللعبة والملاعب، صار ربيبُ سانتوس، ابنَ الملاعب كلّها، وملك البرازيل كلّها، والغابات، والأمازونات، والأشجار، والأنهر، والشعوب، والأحلام، والابتسامات، وهلمّ. 
كانت اللعبة لعبةً مطلقةً آنذاك (كالطفولة كالابتسام كالازهرار)، ولم تكن آلة. وكانت الكرة طفولةً كلّها، وكلّها حلمًا، وخلوًا على وجه التقريب – إلّا في ما ندر - من التسليعات والميكانيزمات والآليات والصفقات. ولم تكن لعبة البورجوازيّة، ولا لعبة الأريستوقراطيّة، ولا لعبة رجال الأعمال، ولا الوجهاء، ولا السماسرة، ولا أصحاب الكارتيلات، ولا قادة المال المغسول، ولا ملّاك الدولار والنفط والغاز. وكم يغبطني أنْ أظلّ أسمّيها لعبة الشعب، هذه اللعبة الشعبيّة، الآتية من حنين الطفولات اليتيمة إلى ذاتها الشريدة الضائعة التائقة إلى تعويضٍ إلى عزاءٍ إلى منزلٍ وسقفٍ وسماء في غيابات المنزل والسقف والسماء. 
إنه Edson Arantes do Nascimento المعروف بـ بيليه. يسمّونه الملك. ويُفسَّر لقبه بأنّه معجزة. ما أحببتُ أحدًا في كرة القدم أكثر منه. لن أحبّ أحدًا في كرة القدم أكثر منه. ليس لأنّه فريد زمانه. وليس لأنّي متحزّبٌ لهذا الشخص لهذا اللاعب بل فقط لأنّي متحزّبٌ للعبتي، متحزّبٌ لطفولتي، وساكنٌ فيها. وهو، أي Edson Arantes do Nascimento ساكنٌ طفولتي تلك (بل هذه)، ومستولٍ عليها استيلاء مَن يُستسلَم له لا مَن ينتهك أو يحتلّ أو يغتصب.
وسيظلّ. كحلمٍ. كعصفورٍ في غابة. كضوءٍ فوق العالم فوق الأمازون.
وحين جاء إدسون إلى بيروت ليلعب، كان اسمه صار بيليه، وجميعنا لعب معه، وجميعنا قفز قلبه له، ونده عليه، وسمّاه بلقبه، وصفّق له، وصفّر، وزمّر، ورحّب، وكاد يعزمه إلى السهرة إلى العشاء، وكاد يسأله أنْ يحمل معه رسائل إلى الأهل إلى الأقارب هناك في بلده الأصليّ الأصيل، حيث لنا القوم هناك، والعشيرة، والسلالات، والأشغال، والكشّة، والوزراء، والنوّاب، والمواهب كلّها، والعصبة، والشعراء، والأدباء، والروائيّون، والرسّامون، والفتيان الأغرار، وراقصات السامبا، وحيث عندنا هناك ما أجمل الليل والبرازيل والنوادي والطبل والزمر والتأوّه تحت فاكهة الليل تحت النجوم والسهر المحموم إلى دهر الداهرين آمين. 
***
الملك مات. الملك لا يموت. سلامٌ إليكَ يا إدسون أرانتيس دو ناسيمنتو المعروف بـ بيليه. سلام إلى روحكَ إلى ضحكتكَ الملكة. وسلامٌ إلى طابتكَ المعجزة!


الكاتب والصحافي عقل العويط