المعرض الذي تقيمه "غاليري جانين ربيز" تحت عنوان "زهور ملاعب" من 18 كانون الثاني الجاري إلى 25 شباط المقبل، أريد أنْ أضفي عليه قيمةً إنسانويّةً ووجوديّةً، انطلاقًا من كونه يمثّل لي مساهمةً جوهريّةً في عمل الطبيعة، ومراكمةً لخيراتها، بما يجعله احتفالًا زاهيًا بالتأليف، بالتخييل، بالجمال، بالغبطة، بالفرح، بالعطر، بالعيش، وضدّ الموت، وجحافله المدجّجة بالبشاعة والقحط والجدب والحقد واليأس.
"معرض زهور!؟"، قال لي متعجّبًا ومتسائلًا (وربّما متحفّظًا) أحد كبار متابعي الحركة التشكيليّة اللبنانيّة. بدا كأنّه يهمس بنقدٍ خفرٍ لا يريد أنْ يستمع إليه آخرون: الفنّان لوحته في هذا المعرض استراحة محارب بعد لوحاته الخبيرة والشاهقة عن المدن. لوحة جذّابة مترفة الألوان، تخاطب المتلقّي وتستدرج الغواية وإغباط الجمهور.
لا يعنيني أنْ أعلّق على ما سمعت، بل أنْ أقول ما يأتي عن زهور (نساء) جميل ملاعب اللواتي يشهرن الفرح الجماليّ المسروق من حياتنا وأرضنا، وينزحن من عطش الحلم المكبوت، ومن التخييل اللونيّ والتأليفيّ. وهو يعرفهنّ المعرفة الحميمة التي تتأتّى من فرط "العيش المشترك" في رحابهنّ، ومعهنّ.
فلأنظر إليهنّ، والحال هذه، باعتبارهنّ بعضًا من وجوده المكانيّ والمعنويّ، من حديقته، من بستانه، من مدى عينيه، من يديه، ومن حواسّه جميعها. فإذا قلتُ إنّهنّ أليفاته وعشيرات يومه وعيشه وأنفاسه، فلربّما أُلامس شيئًا من المعنى الذي يتأسّس عليه هذا المعرض. وها أنا أقارب اللوحات باعتبارها تجلّيات الأنس التشكيليّ الذي يفيض لا زهورًا بل نساءً آنساتٍ سيّداتٍ أنيقاتٍ منيعاتٍ متغاوياتٍ غامضاتٍ واضحاتٍ صديقاتٍ عشيقاتٍ، ويفيض أيضًا لحظاتٍ من نشوةٍ ولذّةٍ وحرّيّة، وغيومًا راقصاتٍ ساهماتٍ مسافراتٍ وسابحاتٍ حيث يشأن، أفي الفضاء أم في البرّ وشقيقه اليمّ، لا فرق.
فلأخاطبهنّ باعتبارهنّ فساتينَ وقمصانًا وحكاياتٍ ملوّناتٍ مطرّزاتٍ مشغولاتٍ بما يضمرن وبما لا يُرى من أشكالهنّ الماثلة أمام العين.
وكم يحلو لي أنْ أرمقهنّ، وأرافقهنّ، باعتبارهنّ راقصات باليه، ولِمَ لا كاهناتٍ يرقّصن الطبيعة ويراقصنها، ويذهبن معًا إلى الحفلات العامرة الغامرة، حيث المرج حينًا، وحيث الفسحة الحارّة الغنّاء، وحيث الإناء حينًا آخر، ثمّ الحوض، فالمسكبة، وهلمّ.
وهنّ، أي الزهور النساء، يحتفلن بترفٍ (لِمَ لا؟!) وبهتافٍ لونيٍّ (لِمَ لا؟!). وهنّ يخدمن الفرح والسعير والنار الحميمة على طريقة نساء الغيشا، أو هنّ مغنّياتٌ، أو مؤدّياتٌ، ومرنِّماتٌ، أو كلماتٌ، أو قصائدُ، أو نوطاتٌ موسيقيّةٌ، أو راقصاتٌ، أو ظلالٌ لِما يحيا في الأمكنة الخلفيّة، في مضمرات المرايا، في الضفاف الأخرى، في الدفين من التأمّلات والانحطافات والاستبصارات الرؤيويّة، وما يطيب للمتصوّفين والمتصوّفات أنْ يفعلن في أوقات المثول المغمورة بالأحاسيس التي لا تُستَشعَر بالحواسّ فحسب بل بالعقل خصوصًا وبتموّجات النفس، حيث التفلسف ممعنٌ في استدراج التأويل إلى آخره.
لكنّ زهور جميل ملاعب هي الزهور. وهي طبيعةٌ صامتةٌ nature silencieuse (أجمل التسميات)، لكنّها ليست جامدةً ولا "ميتةً"nature morte بحسب التسمية الفرنسيّة للانشغال بالزهور والشغل عليها وفيها. إنّها زهور تومئ أيضًا إلى التسمية الإنكليزية still life (على قيد الحياة)، وتميل إليها، وتتفاعل معها، بل وتتلاعب بها، وتقرصها، وتداعبها، وتغنّجها. بل أكثر: تمعن في تثويرها وتحفيزها والذهاب بها إلى حيث في مقدور حرّيّة التأليف ورحابة الاختبار التخييليّ أنْ تلعبا وتتلاعبا، وأنْ تقطفا الأشكال التي قد لا تخطر حتّى في بال الطبيعة نفسها. فزهور جميل ملاعب مفعمة باللغات، بالحيويّات، بالإيقاعات، بالتأليفات، وبالحالات الخلّاقة. وإذا كان الفنّان يتعامل معها - حينًا – بحنكة الملمّ بعمل الطبيعة وطرائقها المعروفة والمتداولة في إنتاج زهور الطبيعة الصامتة، فإنّه يتعامل معها - أحيانًا كثيرةً - باختبارٍ تأليفيٍّ وتأويليٍّ وحلميٍّ ومسرحيٍّ، وبالدرس المتراقص أيضًا، وبالاستشراف، متجنّبًا بحنكةٍ ومراس، الوقوع في غوايات التقليد والعادة والسهولة.
أعود إلى التساؤل المتحفّظ الذي أبداه أمامي أحد كبار متابعي الحركة التشكيليّة اللبنانيّة، لأقول إنّ زهور جميل ملاعب صامتة، حيّة، وتتكلّم، بل وتختال، وتتألّف، وتتمسرح. أجمل ما فيها أنّها تخرج من البيت، من المزهريّة، من الإناء، ومن الحلم، لتتنزّه بعري حرّيّتها فوق السطح، في البستان، في المرج، ولتنضمّ – بالرسم - إلى احتفالات أمّها الطبيعة، منافِسةً إيّاها في عمليّة الخلق. وما ألذّ المنافسة.
الكاتب والصحافي عقل العويط