مستوقفًا الجسر الذي يصل الشعر بالنثر، أدخل فورًا ومباشرةً في صلب الموضوع الذي يعنيني، لأستنطق أحوال الكلمات التي لا تطيق كونها جزءًا من كلّ، رافضةً الاستسلام لقَدَرها في أنْ تكون حدودُ مملكتها هي أراضي النثر، والعكس، وأيضًا لأزورها في توقها إلى أنْ تكون الكلّ في الكلّ، وهي تشقّ دروبها نحو عالم الكلمات (القصيدة) اللّامتناهي. أحبّ لمثل هذا الاجتهاد أنْ يختصر جوهر مساهمتي العابرة والمتواضعة في المسألة الجبرانيّة، على هامش العيد المئة لولادة "النبيّ"، عارفًا في الآن نفسه، ومعًا، أنّ من الغلط المجحف، بل من المستحيل، التفكير في "أسر" الإشكاليّة الجبرانيّة المركّبة والمعقّدة والمتنوّعة ضمن قضيّة الشعر المنثور، أو النثر الشعريّ. 
مهلًا. مهلًا.
المعاني كثيرةٌ، غفيرةٌ، وهي، ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، معروضة في السوق (على قول الجاحظ). أمّا النادر، أمّا الصعب الوجود، أما الاجتراح فكامنٌ في الأسلوب. فتقول عن فلان إنّه صاحب طريقة، صاحب أسلوب، صاحب شكل، وصاحب لغة. وها هنا، يكمن البعضُ الجمُّ من اللبّ الجبرانيّ، وها هنا يتجلّى الدور جلّه، وتتألّق المكانة. 
أدركَ خليل أنّ اللغة هي القضيّة، وهي المستقبل. فقال – من دون أنْ يقول - بالأمومة الواحدة للكلمات. وما دامت الكلمات هي الرحم، هي الأمّ، فلا فواصل بين الشعر والنثر، ولا متاريس، ولا حروب، ولا قطيعة. 
وإذا من وصفٍ ينفرد به جبران، على هذا المستوى، فهو أنّه أوقف مأساة الفصم الدراميّ بين الشعر والنثر في اللغة العربيّة، فاتحًا الليل على فجر الحداثة الأدبيّة في حركيّتها اللغويّة التأويليّة، المأثورة والحاسمة. هذه ليست مسألةً سهلةً، البتّة. بل هي في اعتقادي الأصعب والأدهى. كأنّ خليل كان يقول في مسعاه: ها أنا أكتب شعرًا في النثر، ها أنا أشعرن النثر، وها أنا – تقريبًا – أومئ إلى جنين قصيدته، جنين قصيدة النثر. 
لا يستخفّنّ أحدنا بهذا الدور، بهذه القضيّة. وخصوصًا إذا أراد (كلّ مَن يريد) أنْ يرسم مسارًا للكتابة العربيّة خلال المئة عام الماضية، وما سيليها من أيّامٍ وتجاربَ وكتابات.
كان ذلك قبل مئة عام. بل أكثر. بل أكثر. قبل نحوٍ من مئةٍ وخمسة عشر عامًا. وربّما أكثر. مذ وضع جبران كتابه الأوّل، ثمّ مذ كرّت السبحة. معه، ومع غيره. وكم هو، وكم غيره كثيرٌ كثير!
صنع خليل جسرًا ليس مثله جسر. لأنّه جسرٌ من كلمات. من لحم الكلمات. من غلالاتها. من أشكالها. من ألوانها. من مراتبها. ومن طبقات أرواحها. 
خليل هو الجسر الذي وضع حدًّا فاصلًا في العربيّة للقطيعة المستنكَرة بين ما يسمّى النثر وما يسمّى الشعر. أدرك أنّ هاجس الكلمات الأزليّ – الأبديّ، أنّها لا تكتفي، أنّها تتململ، أنّها تنتفض، أنّها ترغب، أنّها تشتهي، أنّها تطير، أنّها تحلّق، أنّها تنتقل، أنّها تحفر، أنّها تشفّ، أنّها تتعرّى، أنّها تتجامع، أنّها تحلم، أنّها تخرج، أنّها تظلّ تخرج، وأنّها تنقلب على ذاتها، لتولد بذاتها، ومن ذاتها، فتكون غير ما كانت، وغير ما هي.  
بهذا، بهذا الفعل، فقط، لا "تتمودر" بذاتها، فتنتن، وتفسد، وتختنق بشرنقتها. 
وبهذا، تحدث، كأنّها تحدث للمرّة الأولى، فتولد من جديد. علمًا أنّها – للوهلة الأولى – تبدو هي ذاتها. لكن هيهات.
أهو أبو الحداثة (جبران)، إذًا؟ 
أجيب: لا أجمل من أنْ يوصَف امرؤٌ بأنّه جسر، بل الجسر.
خليل هو هذا الجسر. لم يحصل شيءٌ يُذكَر في العربيّة الأدبيّة كلّها منذ العشريّة الأولى من القرن العشرين، إلّا موصولًا بهذا الجسر. أو متمرّدًا، أو خارجًا عليه.
"طريق الحرير" الأدبيّ العربيّ، مرّ من هنا، من على هذا الجسر الجبرانيّ. هنا النافذة، هنا الباب، هنا المعبر. من مشارق الأدب العربيّ إلى مغاربه. ولا مبالغة. ثمّ كان لا بدّ من انتظار نحوٍ من خمسين عامًا ليحدث الزلزال، وتتحقّق المعجزة (الدائمة الولادة) فتولد من النثر قصيدة.
... أمّا المعاني، على بلاغتها، فليست هي المسألة.
الجسر كان الضرورة. هو الضرورة.
الآن، بعد أكثر من مئة وخمسة عشر عامًا، نقف أمام التاريخ، فنرى الجسر أصبح جسوراً، ونرى الجسور تتوالد، وتتكاثر، وتتداخل، وتتفرّع. ونراها قد ضاقت بكونها جسورًا، وتريد أنْ تكون أكثر أكثر.
وفي هذا العبور الطويل، لا ينسينّ أحدٌ جسر ترجمة الكتاب المقدّس لليازجي. وجسر فؤاد سليمان!
... ونرى الجسور تسفّه الجسور، وتنسف الجسور، لتخلق جسورًا بديلةً لامتنهاية.
يجب أنْ نرى إلى جبران من خلال هذا كلّه، وبمجموعه، ومن جوانبه، وبمراتبه، وطبقاته، ومراحله كافّةً، وبدون افتئات، وصولًا إلى حيث ما يُشتهى من جسورٍ لم تولد بعد، لكنّها ستولد، لا محالة، لا مفرّ، لئلّا تفغر الأودية والهاويات أفواهها فتقع اللغة، فترتطم بالقعر، فتحطم، وتموت.
الجسور الجسور. إنّها مسألة جسور، لئلّا "يتمودر" النثر، و"يتمودر" الشعر، و"تتمودر" الكلمات، و"تتمودر" اللغة بجسمها، بذاتها، فتنتن، وتفسد، وتنحلّ، فتصير جثّة.
هي، اللغة العربيّة، كانت في "انحطاطها" جثّة. وليس أبشع من أن تكون اللغة جثّة، والكلمات!
على أنّ مسألة التجسير ضاربةٌ جذورها في تاريخ الكلمات، في تاريخ اللغة، في أعماقها، وليست جديدةً أو معاصرةً أو حديثةٌ فحسب. كلّما استشعرت اللغة، والكلمات، حاجتها إلى الخروج عن وعلى، كانت تجد المنفذ، والمعبر، والممرّ، والطريق إلى ما هو أكثر، وأعمق، وأبعد.
هذه مسألةٌ لها علاقة بالحياة، حياة اللغة، حياة الكلمات. ولطالما شهدنا (في العربيّة) شعرًا في النثر، ولطالما كانت اللغة هي الأمّ التي تسهّل طرائق التنقّل والعبور بين المناطق، إلى حيث المستقبل، مستقبل اللغة والكلمات، وإلى حيث الحرّيّة.
يجب أنْ أقول شيئًا دقيقًا إضافيًّا في ما يتعلّق بالمسألة الجبرانيّة: إذا كانت المعاني معروضةً في السوق، فهذا لا يعني البتّة أنّ خليل لمّها من السوق. لَغلطٌ جسيمٌ يقع فيه مَن يقع. فخليل جبران، آنذاك، أخذ المعاني بعقله، بروحه، بيده، إلى حيث تستطيع أنْ تصل (معه) إلى احتمالاتها. ولم يكن ذلك الفعل بقليلٍ البتّة. بل كان طليعيًّا ومتجرّئًا وثوريًّا وجديدًا. وهلمَّ.
... وهو جعل تلك المعاني في لغة. وجعل نفسه، في الآن إيّاه، ومعًا، صاحب لغة. وجعل المعاني في جسد هذه اللغة. وها هنا، على ما أزعم، أهميّته الرياديّة المزدوجة، التي مثّلتْ، وفق هذا التأويل، حدثًا تأريخيًّا مفارِقًا.
لستُ مأخوذًا بتقريظ جبران خليل جبران على طريقة التلامذة والأتباع والمريدين، أو بـ"تأليهه". ذلك لا يفيده (ولا يفيدنا) في شيء، بل يؤذيه (ويؤذينا)، لأنّ "التصنيم" – كلّ تصنيم -  مُنفِّرٌ، وهو جريمة. شأن الديكتاتوريّة التي "تتسلبط" على الحركة، فتوقفها، وتمنع عليها حرّيّتها، وتلغي فاعليّتها، وقدرتها على التحويل والتغيير. هذا أسوأ ما يمكن أنْ يتعرّض له كاتبٌ أو شاعرٌ (أو نبيّ)، هنا، وفي العالم. 
لن أحصي الجسور، ولا المحطّات، ولا أصحاب اللغة. كلّما أومأتُ إلى صاحب طريقة (لغة)، ولد حدّه صاحبٌ ثانٍ، وثالثٌ، وهلمّ. كلّما أومأتُ إلى جسر، بان بعده جسرٌ آخر.
يسرّني في خاتمة هذه المذاكرة العابرة أنْ أستلّ من أنسي الحاج عنوان كتابه "ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة" لأخاطب خليل جبران قائلًا: ماذا صنعتَ بالنثر (يا خليل) ماذا فعلتَ - لـ - القصيدة؟

الكاتب والصحافي عقل العويط