فوق الخلل الوطني وواقع البرلمان الذي لا يختلف كثيراً عن دور البرلمانات السابقة! ويقابل ذلك تصلب «حزب الله» الذي بعد رئاسة عون حدّد لنهجه 3 أقانيم: رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان والسلاح، ضمانةً لهيمنته والمضي بمخطط قيام لبنان آخر أسوأ من الوضع الحالي، ويتعاطى بأريحية مع الخارج، لأنه ضمانة مصالحها النفعية!
منذ قُتل رئيس «الطائف»، رينيه معوض، لم تنتخب برلمانات ما بعد الحرب الأهلية رئيساً للجمهورية. لقد عمّ الشغور الرئاسي منذ عام 1990، عندما لم يُترك للبرلمان إلاّ البصم على مرشح وحيد كان المحتل السوري يقترح اسمه قبل عام 2005، وبعد عام 2008، فرض «حزب الله» مشيئته! ففي عام 2009، كما في عام 2016، «مُنعت» الأغلبية من إيصال مرشح لها رئيساً؛ مرة نتيجة الترهيب بعد احتلال القمصان السود للعاصمة وانعقاد «الدوحة»، وثانية بعد الاتفاق النووي، فنقلت قوى طائفية رئيسية البندقية من كتف إلى كتف، مفضِّلة إبرام صفقات محاصصة واستئثار مع التيار العوني، وفق مخطط «حزب الله»!
منذ «مؤتمر الدوحة»، اتسع دور «الحزب» نتيجةَ «فائض القوة» التي امتلكها، وكان الجهة التي تُجيز تأليف الحكومات التي تشكلت منذ عام 2009. ولم تقتصر قوّته يوماً على حجمه التمثيلي داخلها. لقد لعب الدور الأخطر موجّهاً للسلطة، فبدا لكل المنظومة الحارس المانع للإصلاح، فحاز رضا الآخرين، لأن خطوات الإصلاح، مهما صغرت، كان من شأنها أن تمسّ مصالح المتسلطين... ويستحيل عليه التبرؤ من النتائج الكارثية التي تسببت بها إملاءاته السياسية والاقتصادية على اللبنانيين! ورغم ذلك يريد بترشيحه سليمان فرنجية فرض الرئيس الذي يستنسخ مآثر عهد عون! أما التباهي بأنه الجهة التي قمعت «ثورة تشرين»، فالقراءة المتأنية تؤكد عجزه عن إخماد بقعة الضوء التي حملها مناخ تشريني تغييري، ففاجأته صناديق الاقتراع بالتصويت العقابي، كما في عدد النواب الذين دخلوا البرلمان لأول مرة ممثلين للثورة!
الظاهرة التي طرأت على تركيبة برلمان 2022، أدخلت متغيراً سياسياً نوعياً؛ فـ«تكتل التغيير»، هو الكتلة الخامسة من حيث عدد النواب، والأولى من حيث التصويت الشعبي، أسقط أكثرية «حزب الله»، ومنع خصومه من الاستحواذ على الأكثرية... وواقعياً خلط الأوراق بمعزل عن «زحطات» في أداء البعض نتيجة قراءة قاصرة، أو رغبةً بمصالح. ولم يكن استهدافهم خارج التوقع؛ فالهدف تشويه الدور لإحباط التجربة.
لكن، حتى في الاعتصام النيابي، رغم جانبه الاستعراضي، هناك حقيقة تكمن بتحديد الانقسام بأنه يدور حول الدولة والمؤسسات وليس أحجام الطائفيين ومصالحها الفئوية... ولا ردم لهذه الهوة إلاّ بالعودة للتشرينيين العاملين للتغيير، وبعودة هذا التكتل إلى مبادرته التي حددت البرنامج السياسي: قيام «الكتلة التاريخية» لتظهير البديل السياسي، وهو أمر متعذَّر مع قوى السلطة، ومستحيل بالتوافق معها، وغير ممكن من داخلها!
المشهد معقَّد، وأخطر منه مشروع رئاسة تقوم بكل شيء إلاّ حماية حقوق الناس والمصالح الوطنية. وحده المسار التشريني لفرض حكومة مستقلة تعيد تكوين السلطة يبقى أقل تكلفة على اللبنانيين الطامحين لاستعادة الدولة وتطبيق القوانين دون استنسابية، لتتأمن العدالة، وتُضمن الحقوق، وتحمى الكرامات، وتصان الحريات وحق الاختلاف، ويتأكد أن لبنان آخر يستعيد هويته وسيادته ما زال ممكناً!
الكاتب والصحافي حنا صالح