الترفُ الوحيد، الذي أترفُهُ، هو فنجانُ القهوة.
لكنْ، يجب ألّا أتباهى. يجب ألّا أتفلسف، ألّا أتفذلك. 
يجب أنْ أخبّئ هذا الترف تحت وجيف القلب، تحت رأفة الأجفان، تحت ركامٍ من الصمت، من التحفّظ، من أحلام المدن والبيوت والموتى، لئلّا أضطرّ في يومٍ ليس ببعيدٍ أنْ أتحسّر على تساقطه من يدي، واندثار شظاياه في العدم.
ترفٌ واحدٌ وحيدٌ، هو توقٌ، وهو اشتهاءٌ وتلمّظٌ وانتشاءٌ وامتلاءٌ واغتباطٌ وانخطافٌ وامّحاءٌ وتبدّدٌ وتلاشٍ أثيريٌّ، هو هذا الترفُ المعشوق. 
حتّى ليُشعِرني هاجسُ التخفّف منه، أو انحساره، أو أفوله، برعبٍ هائلٍ، هو من نوع الرعب الذي يستولي على المرء عندما يخسر، عندما ينهزم، عندما ينكسر فنجانه، فنجان قلبه، فنجان روحه، عندما تنزلق الكسور من بين يديه، عندما لا يعود في مقدوره أنْ يدملها، أنْ يلأم آهات شظاياها، أو يدرأ الشرور عنها.
فنجانُ القهوة هذا، لا يقاسمني أحدٌ إيّاه، ولا يزاحمني أحدٌ عليه؛ أنا له، أنا هو، وهو أنا، وهو لي بمفردي، وهو ترفٌ لي مطلقٌ ولانهائيٌّ، شأنَ الحبّ الذي أحبّه، شأنَ الفكرة التي أفكّرها، وعلى غرار القصيدة التي أهمّ بأنْ أكتبها، وقد أكتبها ولا أكتبها، وصنوَ الحرّيّة، وصنوَ الصمت الذي أصمته، والشرود الذي أشرده، والسفَر في رأسي الذي أسافره، والموت الذي أموته، ثمّ أعود أحياه.
فنجانُ القهوة هذا، وحده؛ فلا أحدَ معي، ولا أحدَ سوايَ، ولا حتّى هذا النرجس – ذاك النرجس، الذي يستولي على نفس المرء، ويخلبه، ويُبطِل عملَ العقل لديه.
فنجانُ القهوة هذا، حين الكلّ ليس في الكلّ، حين الجميع ليس في الجميع، حين الجميع حين الكلّ فيَّ، وحين لا شيء، لا أحد. 
ومَن يدري آنذاك ما أنا، مَن أنا، وما القهوة، وما الفنجان، وما الشعر، وما اللغة، وما الكلمات، وما الخلاص، وما الحرّيّة، وما الوجع، وما العبث، وما العدم، وما السجن، وما التوق، وما الوجد، وما الشغف، وما الهوى، وما الجنس، وما الفلسفة، وما العصفور، وما العشبة، وما النهر، وما الغيمة، وما الأزرق، وما النسيم، وما الموسيقى، وما الكتب، وما... لبنان.
أكتب فنجانَ القهوة هذا، في الساعة التي ولدتْني فيها أمّي، قبل الكثيف الكثير من السنين؛ حين ولدتْني في الزمهرير، في العصف الأهوَج، في الوقت العصيب من ذاك الصباح المتألّم كقنطرةٍ متداعيةٍ في البيت المعقود، كسقفٍ نازفٍ في المطر، في البرد، في وجع الوقت والمخاض والأنين.
أكتب هذا الفنجان، ولبنان في يدي شبه مكسورٍ كفؤادي الكثيف الكسور.
وهو، أي الفنجان هذا، والحبّ، والحرّيّة، والشعر، والعقل، ولبنان؛ هو الترف الوحيد الذي أترفه، وأخبّئه في مهجتي، في وجيف قلبي، تحت وطأة هذا الموت العظيم الذي أموته، ثم أّعود أحياه كلّ يومٍ. 
هذا الترفُ الواحدُ الوحيدُ، كفنجانِ ولادتي. كلبنان.

الكاتب والصحافي عقل العويط