ما رأيتُ مدينةً تهوي (إذا هوى*) تتخلّع، تترنّح، تتحلّل، تنحلّ، تتفكّك، تتفسّخ، تتهدّم، تولول، تشهق، تنوح، ترثي ذاتها بصمتٍ، بلا صوتٍ، وبصوتٍ...، ما رأيتُ بيروتًا تحتضر، تحشرج، تتراقص مذبوحةً من الألم، لتسلّم الروح في النهاية وتموت، مثلما رأيتُها، هذه المدينة، هذه البيروت، أوّل من أمس الأحد، على خشبة "مسرح المدينة"، يتقمّصها (أو تتقمّصه) جسدُ روجيه عسّاف، الذي كان – وأنا أشهد، وتشهد معي الصالة الغفيرة المملوءة عن آخرها - أكثر من شعرٍ وقصيدة، وكم كان، هو وجسده، أكثر من مدينة.
عندما رأيتُ روجيه عسّاف على الخشبة متمسّكًا بعصاه، متنازلًا عن عصاه؛ متراقصًا، نائحًا، هازجًا، راثيًا، دابكًا؛ عندما رأيتُه بجموع جسده، بأصابعه، بيديه الصادحتين المتضرّعتين المولولتين المحبطتين اليائستين المنتحرتين؛ عندما رأيتُ جسده يتساقط شلوًا شلوًا، وأعماره تنهمر، ونظرات عينيه تتشلّق كانهياراتٍ قتيلة، كثمارٍ ممروضةٍ مهيضة؛ عندما رأيتُ روحه تتهدّل وتنطوي كبناياتٍ تتداعى، كشرفاتٍ تتكسّر، كأطفالٍ معفّرين، كشوارعَ كسيحة، كمقاهٍ، ككتبٍ، كأحلامٍ، ومناديل؛ قلتُ ها هي المدينة الثكلى أمامي، ها هي بيروت القتيلة، بما آلت إليه، بما ستؤول إليه.
كأنّما العرض الذي حضرتُه، كان هو الفجيعة البيروتيّة التي تُختصَر بلغة الجسد، بلغة الحركة المحنّكة، بلغة الإيقاع المجلجِل المتلجلج، وكان هذا العرض (ليته كان بلا كلام) القصيدة القصوى، وكان هو خصوصًا، ولا سيّما، وهنا، والآن، كان هو هذه البيروت، هذه المدينة القصوى.
فلتعذرني الممثّلة الكبيرة حنان الحاج علي، فليعذرني المخرج الخلّاق علي شحرور، ولتعذرني الكوريغرافيا، والإخراج، والموسيقى التي تهدّ اللّاوعي، وتجرّح الباطن، وتمسك بتلابيب القلب، ولتعذرني الخشبة كلّها، والفضاء المسرحيّ، وكلّ ما يمتّ إلى هذا العرض المسرحيّ الاستثنائيّ بصلة. هؤلاء كلّهم، وهذا كلّه، "التقى" كلّه في جسد روجيه عسّاف، في قصيدة جسده المأسويّة التي برّحت وجودي برمّته، والتقطت التراجيديا، هندستها، جوهرها، وجعلتني شاهدًا لهذا العرض، وشهيده.
أهو "تمثيل"، هذا الذي رأيته؟ كلّا. هو ما يفوق الواقع، ما يفوق الحقيقة، ويلغي الفارق بين الذات والموضوع، فيصير العرض ذروة الشعر وذروة المدينة، أكثر من الشعر، وأكثر من مدينة.
ليت العرض خلا من الكلام النادر القليل الذي لم يكن في مقدوره أنْ يرتقي ليوازي الجسد المختصر كلّ لغة، وكل صوت، والمغمض الساكت عن كلّ كلام، والناطق بكلّ الكلام، لأنه الكلام كله. وكم تلك الكوريغرافيا المذهلة، وتلك الضربات الموسيقيّة العصماء الأشبه بالصنوج، كم كأنها كانت تأتي من أعماق جسد روجيه عسّاف (جسد المدينة) ومن أمكنةٍ سحيقةٍ موغلةٍ في لاوعي بيروت، في ضرائحها وأعمارها المضرّجة.
... أيجب أنْ أغفل عن المشهد الأخير بين روجيه وحنان، حيث ثمّة حبٌّ عظيمٌ يعزّي وينجّي وينقذ؟
تقول الورقة المرفقة: "زوجان، حبيبان يفتحان باب المدينة، يسيران في شوارعها، بين بقاياها، بقايا ذكرياتهما، بقايا الفرح، بقايا مسيرة حياة، بقايا عرض رقص، بقايا مأساة أهل بيروت. المدينة التي تهوي، تهوي أمام أعيننا، ولكن ما زالت تنبض فيها عيون تعشق وقصص حبّ، مسرحها قلب أمّ وقلب أب".
إنّي أرفع هذا الجسد المتهاوي، أرفع هذا العرض المسرحيّ الكوريغرافيّ الراقص المهيب العالي الجبين المرفوع الرأس، إلى الهيئات الأمميّة المدافعة عن الكرامة الإنسانيّة، والحياة، والحبّ، والحرّيّة، والحقّ في الوجود، وحقوق المدن والشعوب والبلدان في تقرير مصيرها، وإلى منظّمة الأونيسكو، ومحكمة العدل الدوليّة في لاهاي، باعتباره "إخبارًا" مدوّيًا بـ"جريمة حرب"، وبالانتهاكات الفظيعة التي توازي عمليّات التدمير المنهجيّ المنظّم والمحو والإلغاء والاستئصال والإبادات الجماعيّة التي تتعرّض لها بيروت وأهلها.
علي شحرور، بالكوريغرافيا والإخراح الممتازَين، جعلني، هو والفريق الذي تعاون معه، وفي الأخصّ روجيه وحنان، أشعر أنّ بيروت لا – لن - تموت في المسرح، وفي الواقع، على السواء.
هذا العرض، إنّي أنحني له تكريمًا ..
* "إذا هوى"، هو عنوان هذا العرض الراقص، كوريغرافيا وإخراج علي شحرور، أداء حنان الحاج علي وروجيه عسّاف، موسيقى تأليف وأداء عبد قبيسي، مساعد إخراج ومدير الانتاج شادي عون، مصمم إضاءة ومدير تقني غيوم تيسون، مهندس الصوت بينوا رايف، انتاج علي شحرور.
الكاتب والصافي عقل العويط