ما دام الانحطاط الرسميّ وغير الرسميّ يبلغ كلّ يوم رقمًا قياسيًّا يتخطّى قعر القعر نزولًا، في لبنان هذا، أيعود، يا ترى، مفيدًا أو جائزًا، استخدام الرصانة في الكتابة، كما في الفكر والقول والعمل، أو الاستنجاد بالحكمة، أو اللجوء إلى التحفّظ، أو الترفّع، أو سوى ذلك من الصبر على الجروح والقروح والمآسي والكوارث.
أمام هول هذا الانحطاط الجماعيّ الأعظم، في لبنان العظيم الأعظم هذا، لم يعد من معنى للخوف على لبنان. فليس سوى الاحتقار، ثمّ الاحتقار، ثمّ الاحتقار، وبالثلاث، ومن داخل ومن خارج، ومن فوق إلى تحت. والعكس بالعكس. وليُجمع هذا الانحطاط كلّه، وهؤلاء الانحطاطيّون كلّهم جميعهم، من أعلى الهرم إلى أسافله، مرورًا باليمين واليسار، وبهذا وذاك، وبالهنا والهناك، ومن أمام ومن وراء، وليوقَد تحته كلّه وقودًا لا تنطفئ نيرانه، لكي لا يبقى رمادٌ بعد جمر، ولا أثرٌ بعد عين.
وكم أدرك الآن، وكم سأدرك غدًا وبعد غد، أنّ ما نحن فيه من انحطاط، ليس بشيءٍ أمام ما ينتظرنا من انحطاط. فكم أتقزّز وأقرف وأتقيّأ، وأنا أرى إلى هذا اللبنان، وإلى صفاقات "مسؤوليه" ووقاحاتهم، وصغاراتهم، وأرانبهم، وضفادعهم، وصراصيرهم، وحثالاتهم، ومرشّحيهم، ومسترئسيهم، وقحط عقولهم، وعهر قلوبهم، وعفونة أيديهم، وتعبقر ساعاتهم وتوقيتاتهم، وفي معيّتهم والصحبة كلّ ما (ومَن) هبّ ودبّ، وصال وجال، وكرّ وفرّ، في الساعة والساعتين، بالتزامن مع ترتيب لبنان في شبه المرتبة الأولى على قائمة التعاسة في العالم، فضلًا عن قوائم الانتحار والجوع والمهانة والفقر واليأس والذلّ والسعدنة والانتهاز والذمّيّة والانبطاح والركوع والحيونة، مشفوعةً بأجراس الإنذار والتحذيرات القياميّة التي تطلقها، مرارًا وتكرارًا، عن الوضع اللبنانيّ، المراجعُ والهيئات الدوليّة والماليّة والاقتصاديّة في العالم.
علمًا أنّ لبنان هذا، بألف ألف خير، وأنّ الأحوال اللبنانيّة "على الأرض" لا تزال ممسوكة. فالناس يروحون ويجيئون، ويتبضّعون، ويأكلون، ويشربون، وينامون، ويستيقظون، ويقودون سيّاراتهم بعد أنْ يملأوها بالوقود، ومنهم مَن يداوم بانتظام في المقاهي والمطاعم ونوادي السهر والملاهي الليليّة.
علمًا أنّ شعب لبنان هذا راضٍ – تقريبًا - بأمّه وأبيه (لولا بعضٌ من أقلامٍ وعقولٍ وملهمين وحكماء ورؤيويّين وأحرارٍ وثوّارٍ وأهل كراماتٍ ومنتحرين) عما آلت إليه أحواله، في بلاد الغرائز والأحقاد والنكايات والصغائر والنفايات والمراحيض والمواخير والدود والذباب والجيف والغربان والذئاب السقيمة والمواشي والقطعان والغلمان والثيران، حيث لم يعد ينفع فصلٌ سابعٌ، ولا إعلانٌ بدولةٍ فاشلة، ولا محكمةٌ دوليّةٌ، ولا يدٌ أمميّةٌ توضع على مقدّرات هذه الكم أرزة العاجقين الكون، ولا مجلسُ أمن، ولا أممٌ متّحدة، ولا قوى نوويّة، ولا أمٌّ حنون، ولا ولاية فقيه، ولا بعثٌ، ولا شعبٌ واحدٌ في دولتين، ولا اسرائيل من المحيط إلى الخليج، ولا ترياق العالم الحرّ، ولا الصين، ولا فيتنام، ولا هونغ كونغ، ولا حتمًا طهران، ولا باريس (ماكرون هذا)، ولا صهاينة تلّ أبيب، ولا واشنطن، ولا الكرملين، ولا النفط، ولا الغاز، ولا النبيه النجيب ولا السيّد المهيب.
إذا لبنان هو هذا، فليذهب "لبنان هذا" بسادته وعبيده، فليذهب طعم النيران، غير مأسوف عليه.
هذا مانيفست الساعة، يُعمَل به إلى أنْ تتغيّر أحوال هذه الساعة.
الكاتب والصحافي عقل العويط