ما قالته «13 نيسان» 2023 بعد 48 سنة على بدء الحرب الأهلية في لبنان، أن هذه الحرب لم تنتهِ، وأن الاستثمار فيها لم يتوقف، وما سمّي «سلماً أهلياً» لم يكن كذلك، بل مجرد فاصلٍ مؤقت مع حربٍ آتية! وأن وقائع زمن الانهيار المبرمج تقدم أدلة يومية على عدوانية الطبقة السياسية، «موالاة» النظام كما «معارضته»، وقد وحدتهما مصالح ضيقة فئوية فأدارا الظهر لتداعيات الكوارث وأخطار الارتهان!
3 عناوين – أخطار، داهمت البلد المهزوم من الداخل وبات المر زاد أهله، تعاملت معها مافيا الاستبداد السياسي والمصرفي والميليشياوي وفق خيارها اللادولة! 3 عناوين منفصلة شكلاً مرتبطة ضمناً بهدف إعادة إنتاج سلطة الانهيار باعتماد السياسات إيّاها التي أرسلت لبنان إلى الجحيم.
مع الاندفاعة في الرهان على تجديد نظام المحاصصة الغنائمي، شكّل قرار مجلس نقابة المحامين المقيِّد لحقٍ دستوري يضمن حرية الرأي والتعبير، التحاقاً بسلطة الفساد والتبعية في نهج كمِّ أفواه محامين شجعان رفضوا في زمن جريمة تفجير المرفأ والجرائم المالية الرضوخ لـ«قانون الإفلات من العقاب»! ليس شأناً داخلياً استسهال قرار يضع قيداً إضافياً على القضاء المكبل، والذهاب إلى قمع استباقي لانتفاضة حقوقية، تلاقي هموم الناس وتفتح طريق العدالة واستعادة دور القضاء ليكون منطلقاً لاستعادة الدولة المخطوفة! ما كان هذا المنحى ليتفجر لولا عداء عميق للحرية، يبرز تلقائياً في مواقف بعض من يدعي الإصلاح، ليتأكد أن همهم الدفاع عن باطل هو نهج الرافضين لفرض مناخ محاسبة ومساءلة.
أمام خطوات القضاء الأوروبي باستدعاء كبار المصرفيين يتقدمهم حاكم المصرف المركزي، وادّعاء القضاء الفرنسي على مصرفيين بتهم تكوين «جمعية أشرارٍ» ارتكبت في بلدان أوروبية جرائم تبييض أموال ونهب وتزوير وإثراء غير مشروع، تستمر الحماية السياسية والقضائية والأمنية لكارتل مصرفي مسؤول عن السطو على ودائع تفوق الـ100 مليار دولار! واليوم رغم انهيار الثقة بالمصارف اللبنانية، وباتت تسمية مصرفي تعني تهمة، فالخطير أنه رغم الأدلة على حجم الجرائم المالية احتلت صدارة عمل اللجان البرلمانية كيفية تمرير قانون عفو عن الجرائم المالية أسوة بقانون العفو عن جرائم الحرب!
ترك الاستعراض الصاروخي قلقاً عميقاً لأنه وضع البلد أمام شيء من «اتفاق قاهرة» ثانٍ. ورغم ما يحمله من مخاطر وجودية، والتنكر لدروس الحرب الأهلية. انشغل «حزب الله» في «تبرئة» ساحته، فيما راحت الذاكرة تستعيد زمن «فتح لاند» ومآسيه على لبنان ومواطنيه والمقيمين. لكنّ حسن نصر الله تباهى بما تحقق: «استطعنا أن نحيّد (حزب الله) عن المسؤولية»، ليمتدح «تثبيت المعادلات»! ولأنه متعذَّرٌ تجاهُل التداعيات على المواطنين أدرج «قلق الصديق» بأنه يجب أن يُعد «جزءاً من تضحياته في المعركة»! فلماذا يجب تقديم التضحيات؟ ولأي أهداف؟ وهل شرح للناس الغايات والأبعاد وهو القائل في «حرب تموز 2006»: «لو كنت أعلم»؟ أما وإن «الحزب» جزء من منظومة أمنية إقليمية، يأتمر بأوامرها ويخدم مخططاتها، فهل هناك مخاطر جدية بتحويل لبنان وأهله إلى وقود لزوم متطلبات مخطط إمبراطوري مستحيل!
«الأهداف» التي يتباهى «حزب الله» بتحقيقها هي ما عبّر عنها شعار «ترابط الساحات»! الذي يستند إلى التهديد بأن إسرائيل مطوّقة بالصواريخ، وبالتالي فإن الاستعراضات الصاروخية، وكالةً عن «حزب الله»، تتوسل اشتعالاً منخفضاً لـ«إرغام» إسرائيل على التزام «قواعد الاشتباك»، ومن ثمّ التبجح بفرض «توازن رعب» مع العدو! فالهدف الحقيقي من وراء كل ذلك هو ما أشار إليه سام منسى في («الشرق الأوسط» - الاثنين 17 أبريل «نيسان») ضمان إيصال رسالة إيرانية «لكبح جماح أي عمل قد يندفع إليه نتنياهو ضد طهران بسبب نشاطها النووي، أو هرباً من أزمات الداخل أو الاثنين معاً». في كل الأحوال هو نهج يفاقم دمار لبنان وعزلته ويشطب سياسته الخارجية التقليدية ويهمش سلطاته ومؤسساته! والأمر الأكيد أنه لن يقود إلى تحقيق ما عجز عنه الفلسطينيون والعرب طويلاً!
بموازاة نهج التبعية المكشوفة لقوى «موالاة» النظام، فإن «معارضته» اختارت في هذا التوقيت أن تكون أولويتها خوض مواجهة مفتوحة عنوانها الانتخابات المحلية (البلدية)، علّها بذلك تغطي قصورها ومسؤوليتها كالآخرين عن اختطاف أصوات المقترعين، عندما مررت قبل عام تمديداً غير مفهوم للسلطات المحلية. نأت بنفسها عن الحدث الخطير (إطلاق الصواريخ ودلالاته)، وغيّبت الإصرار على استباحة السيادة والحدود وما يمكن أن تقود إليه، فبدت أشبه بقوى قرأت دروس الحرب الأهلية، بالاكتفاء بإدانة عامة للجرائم التي ارتُكبت، لتذهب إلى تلميع ما تريده، في تجاهل مرَضيّ لواقع التمادي في الانتهاكات التي يتعرض لها المواطن وتطول حقوقه الأساسية!
يجمع بين القوى التي تتصدر المشهد السياسي في لبنان أنها تنعم بإيجابية متأتية عن قانون عفو مُدان ارتبط بجرائم الحرب. لذا يتشاركون، ولو بتفاوت، في اعتماد مناسبات تُغرق البلد في تأليه مَن تسببوا في سفكِ دمائهم على مذبح حروبهم، وبين الحين والآخر يعيدون وضع ضحاياهم على الطاولة كاستثمارٍ مربح! وتمنين اللبنانيين بأن مَن سقط كان من أجلهم! وتتحول ذكرى «13 نيسان» إلى منصة خطب سداها ولُحمتها استعادة لغة تستنفر الغرائز الطائفية والمذهبية، بحيث إنهم جميعاً «ممانعون» و«سياديون»، يتبارون في الاستثمار بالتصعيد ليسهل الإخضاع والاستتباع وتكريس الانفصال عن الواقع، فيما الكل مدرك أن «غزة» ثانية خطر يهدد بخراب المتبقي، علماً بأن الزمن لا سقف فيه لحروبٍ مفتوحة بعد الاتفاق السعودي - الإيراني، وأساساً لا حروب قبل انتهاء حرب أوكرانيا التي اختصرت كل الحروب واستنفدت السلاح!
ولأن الانهيارات تتلاحق ولا قعر لها. فإن اتباع السياسات نفسها التي أوصلت إلى الفساد وغطت المنهبة وحمت المرتكبين ولا جرأة إلّا على المسروقين، لن تُفضي إلى نتائج مغايرة. سيقيم الشغور الرئاسي طويلاً ومثله تصريف الأعمال حكومياً، فيما البرلمان الذي يكاد يُنهي ربع ولايته (سنة من أصل أربع) في عطلة دائمة، وقضاء يتحكم به متسلطون نافذون فرضوا تعليق الدستور وحجبوا استقلالية السلطة القضائية... لكن سيستمر دوي الخطب عن «لبننة» الاستحقاق الرئاسي مترافقاً مع انعدام المبادرات الجدية الآيلة إلى «اللبننة» الفعلية! فيتأكد أنهم، في مكانٍ ما متساوون ينتظرون نتائج الاتصالات الخارجية أو يتوسلون لقاء مستشار رئاسي أو زيارة أحد القناصل... فيما الواقع يقول إن ما هو في الميزان أكبر من مجرد انتخاب رئيس، بل موقع لبنان ومستقبله حيال مشاريع هيمنة خارجية داهمة، على مواجهتها تتحدد الأولويات!

الكاتب والصحافي حنا صالح